الترتيب الوجودي؛ لأنَّهم بدؤوا بالترك قبل الإتيان، والحكمة فيه: أنَّهم طابقوا السؤال؛ لأنَّه قال: (كَيْفَ تَرَكْتُمْ) ولأن المُخبَر به صلاة العباد والأعمالُ بخواتيمها، فناسب ذلك إخبارهم عن آخر أعمالهم قبل أوَّله.
قوله: (تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ) ظاهره أنَّهم فارقوهم عند شروعهم في الصلاة، سواء تمَّت أو منع مانعٌ من إتمامها، وسواء شرع الجميع فيها أم لا؛ لأنَّ المنتظر في حكم المصلِّي، ويحتمل أن يكون المراد بقولهم: (وَهُمْ يُصَلُّوْنَ) أي ينتظرون صلاة المغرب.
وقال ابن التِّين: الواو في قوله: (وهم يصلُّون) واو الحال، أي تركناهم على هذه الحال، ولا يقال: يلزم منه أنَّهم فارقوهم قبل انقضاء الصَّلاة فلم يشهَّدوها معهم، والخبر ناطق بأنَّهم يشهَّدوها؛ لأنَّا نقول هو محمول على أنَّهم شهدوا الصَّلاة مع من صلَّاها في أوَّل وقتها، وشهِّدوا من دخل فيها بعد ذلك ومن شرع في أسباب ذلك. انتهى.
فإن قيل: ما الفائدة في قولهم: (وَأَتَيْنَاهُمْ) وكأنَّ السؤال عن كيفية الترك؟ وأجيب بأنَّهم زادوا في الجواب إظهارًا لبيان فضيلتهم، وحرصًا على ذِكر ما يوجب مغفرتهم كما هو وظيفتهم فيما أخبر الله عنهم بقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: ٧]. انتهى.
قال شيخنا: ووَقَعَ في «صحيح ابن خُزَيمَة» من طريق الأَعْمَش عن أبي صالح عن أبي هريرة في آخر هذا الحديث: ((فاغفرْ لهُمْ يوم الدين)).
نكتة: استنبط منه بعض الصُّوفيَّة: إنَّه يستحبُّ ألَّا يفارق الشخص شيئًا من أموره إلَّا وهو على طهارة؛ كشعره إذا حلقه، وظفره إذا قلَّمه، وثوبه إذا أبدله، ونحو ذلك.
قال ابن خُزَيمَة: ويستفاد من الحديث أنَّ الصَّلاة أعلى العبادات؛ لأنَّها عليها وَقَعَ السؤال والجواب، وفيه الإشارة إلى عظم هاتين الصلاتين؛ لكونهما يجتمع فيهما كلا الطائفتين وفي غيرهما طائفة واحدة، وفيه الإشارة إلى شرف الوقتين المذكورين، وقد ورد: أنَّ الرزق يُقسم بعد صلاة الصُّبح، وأنَّ الأعمال تُرفع آخر النَّهار، فمن كان في طاعة بورك في رزقه وفي عمله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ويترتب عليه حكمة الأمر بالمحافظة عليهما والاهتمام بهما، وفيه تشريف هذه الأمَّة على غيرها، ويستلزم تشريف نبيها عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام على غيره من الأنبياء، وفيه الإخبار بالغيوب ويترتَّب عليه زيادة الإيمان وفيه الإخبار بما نحن فيه من ضبط أحوالنا حتَّى نتيقَّظ ونتحفَّظ في الأوامر والنَّواهي، ونفرح في هذه الأوقات بقدوم رسل ربِّنا وبسؤال ربِّنا عنَّا.
قلت: وقد كنت أسمع شيخي وقدوتي السيِّد الشريف أحمد النُّعْماني رحمه الله يقول عند صلاة الفجر: مرحبًا بملائكة النَّهار، مرحبًا برسل ربِّي، السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. انتهى.
وفيه إعلامنا بحبِّ ملائكة الله لنا؛ لنزداد فيهم حبًّا ونتقرَّب إلى الله بذلك، وفيه كلام الله تعالى مع ملائكته، وغير ذلك من الفوائد.
قال شيخنا: استدلَّ بالحديث بعض الحنفيَّة على استحباب تأخير صلاة العصر؛ ليقع عروج الملائكة إذا فرغ منها آخر النَّهار، وتُعُقِّب بأن ذلك غير لازم؛ إذ ليس في الحديث ما يقتضي أنَّهم لا يصعدون إلَّا ساعة الفراغ من الصلاة، بل جائز أن تفرغ الصَّلاة ويتأخَّروا