في مراده في هذا الباب من جهة التغليس بالصبح، ولأنَّ سياقه يقتضي المواظبة على ذلك، وأصرح منه ما أخرجه أبو داود من حديث ابن مسعود:((أنَّه عليه السَّلام أسفر بالصُّبح مرَّة ثمَّ كانت صلاته بعدُ بالغلس، حتَّى مات لم يعد إلى أن يسفر))؛ أمَّا ما رواه أصحاب السُّنن وصحَّحه غير واحد من حديث رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أَسْفِرُوا بَالفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأجْرِ))، فقد حمله الشَّافعي وغيره على أنَّ المراد الأمر بذلك تحقق طلوع الفجر، وحمله الطَّحاوي على أنَّ المراد الأمر بتطويل القراءة فيها حتَّى يخرج من الصَّلاة مسفرًا، وأبعد من زَعَمَ إنَّه ناسخ للصلاة في الغلس، وأما حديث ابن مسعود الذي أخرجه المُصَنِّف وغيره إنَّه قال:((مَا رَأيتُ رَسُوْلَ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّم صَلَّاها فِي غَيْرِ وَقْتِهَا غَيْرَ ذَلِكَ اليَوْمِ يَعنِي الفَجْرَ يَوْمَ المُزْدَلِفَةِ))، فمحمول على أنَّه دخل فيها مع طلوع الفجر من غير تأخير، فإنَّ في حديث زيد بن ثابت وسهل بن سعد ما يُشعر بتأخير يسير، لا أنَّه صلَّاها قبل أن يطلع الفجر؛ والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى. روى البَغَوي التفصيل بين الشِّتاء والصَّيف، فيغلس في الشِّتاء.
هذا الحديث أخرجه البخاري في باب كم تصلِّي المرأة من الثياب، عن أبي اليمان عن شُعَيب عن الزُّهْري، وتكلَّمنا هناك بما فيه الكفاية في جميع متعلّقات الحديث؛ ولنتكلَّم هنا بعض شيء زيادة الإيضاح قوله:(كُنَّ) أي النِّساء، والقياس أن يقال كانت نساء المؤمنات؛ ولكن هو من قبيل أكلوني البراغيث، في أنَّ البراغيث إمَّا بدل وإمَّا بيان، وإضافة النِّسَاءِ إلى المؤمنات مُؤَوَّلة، لأنَّ إضافة الشيء إلى نفسه لا يجوز، والتقدير نساء لأنفس المؤمنات أو الجماعة المؤمنات، وقيل: إنَّ النِّسَاءَ ههنا بمعنى الفاضلات أي فاضلات المؤمنات، كما يقال: رجال القوم أي فضلاهم ومقدَّموهم.
قوله:(يَشْهَدُوْنَ) أي يحضرون.
قوله:(صَلَاةَ الفَجْرِ) بالنَّصب إمَّا مفعول به أو مفعول فيه، وكلاهما جائزان لأنَّها مشهودة ومشهود فيها.
قوله:(مُتَلَفِّعَاتٍ) حال أي متلحِّفات من التلفُّع، وهو شدُّ اللفاع، وهو ما يُغطِّي الوجه ويُتلحَّف به.
قوله:(بِمُرُوْطِهِنَّ) يتعلَّق بـ (مُتَلَفِّعَاتٍ) وهو جمع مِرْط بكسر الميم، وهو كساء من صوف أو خزٍّ يُؤتزر به، قال شيخنا: يعلَّم من صوف أو خزٍّ أو غير ذلك، وقيل لا يُسمَّى مِرْطًا إلَّا إذا كان أخضر ولا يلبسه إلَّا النِّساء وهو مردود بقوله:(مِرْط شعر أسود). انتهى.
قوله:(لَمْ يَنْقَلِبْنَ) أي يرجعن إلى بيوتهن.
قوله:(لَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ) قال الدَّاوُدي: معناه لا يعرف أنساء أم رجال؟ يعني لا يظهر للرَّائي إلَّا الأشباح خاصَّة، وقيل لا يعرف أعيانهنَّ، فلا يفرّق بين فاطمة وعائشة؛ وقال النَّوَوي: فيه نظر، لأنَّ المتلفِّعة بالنَّهار لا ُيعرف عينها فلا يبقى في الكلام فائدة؛ قال العَيني: ورد بأنَّ المعرفة