قوله:(فارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ) أي الأذان، قال شيخنا: فيه إشعار بأن أذان من أراد الصَّلاة كان مقررًا عندهم لاقتصاره على الأمر بالرفع دون أصل التأذين.
قوله:(فإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤذِّنٌّ) أي لا يسمع غاية صوته. قال التُّوْرِبِشْتي: إنَّما ورد البيان على الغاية مع وصول الكفاية بقوله: (لا يسمع صوت المؤذِّن)، تنبيهًا على أن آخر من ينتهي إليه صوته يشهد له كما يشهد له الأولون. وقال القاضي البَيْضاوي: غاية الصَّوت يكون أخفى لا محالة، فإذا شهد له من بعد عنه ووصل إليه همس صوته، فلأنَّ يشهد له من هو أدنى وسمع مبادي صوته أولى.
قوله:(جِنٌّ ولَا أَنَس ولَا شَيْءٌ) ظاهره يشمل الحيوانات والجمادات، فهو من العامِّ بعد الخاصِّ، ويؤيِّده ما في رواية ابن خزيمة:((لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ شَجَرةٌ وَلَا مَدَرٌ وَلَا حَجَرٌ وَلَا جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ)) وله ولأبي داود والنَّسائي من طريق أبي يحيى عن أبي هريرة بلفظ: ((المُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَّ صَوْتِهِ، وَيَشْهَدُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ)) ونحوه للنسائيِّ، وغيره من حديث البراء، وصححه ابن السكن، فهذه الأحاديث تُبيِّن المراد من قوله في حديث الباب:(وَلَا شَيْءٌ) وقد تكلَّم بعض من لم يطلع عليها في تأويله على ما يقتضيه ظاهره، قال القُرْطُبي: قوله: (وَلَا شَيْءٌ) المراد به الملائكة. وتعقِّب بأنهم دخلوا في قوله:(جِنٌّ) لأنَّهم يستخفون عن الأبصار، وقال غيره: المراد كلُّ ما يسمع المؤذِّن من الحيوانات حتَّى ما لا يعقل دون الجمادات. ومنهم من حمله على ظاهره، وذلك غير ممتنع عقلًا ولا شرعًا. قال ابن بزيزة: تقرر في العادة أن السماع والشهادة والتسبيح لا يكون إلَّا من حيٍّ، فهل ذلك حكاية عن لسان الحال لأنَّ الموجودات ناطقة بلسان حالها بجلال بارئها، أو هو على ظاهره؟ وغير ممتنع عقلًا أن الله يخلق فيها الحياة والكلام. انتهى. وقد تقدَّم البحث في ذلك في قول النَّار:(أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا) وسيأتي في الحديث الذي فيه أن البقرة قالت: (إِنَّمَا خُلِقْنا لِلْحَرْثِ) وفي مسلم من حديث جابر بن سَمُرَة مرفوعًا: ((إِنّي لأَعْرِفُ حَجَرًا كَانَ يُسَلّمُ عَلَيّ)).
ونقل ابن التِّين عن أبي عبد الملك: إنَّ قوله هنا: ((وَلَا شَيْءٌ)) نظير قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}[الإسراء: ٤٤] وتعقَّبه بأن الآية مختلف فيها، قال شيخنا: وما عرفت وجه هذا التعقُّب، فإنهما سواء في الاحتمال ونقل الاختلاف، إلَّا أن يقول إنَّ الآية لم يختلف في كونها على عمومها، وإنما اختلف في تسبيح بعض الأشياء هل هو على الحقيقة أو المجاز بخلاف الحديث. والله أعلم. انتهى.
قوله:(إلَّا شَهِدَ لَهُ) وفي رواية الكُشْمِيهَني: <إلَّا يَشْهَدُ لَهُ>، أي بلفظ المضارع، وتوجيههما واضح.
قال شيخنا: السِّرُّ في هذه الشَّهادة مع إنَّها تقع عند عالم الغيب والشهادة، أن أحكام الآخرة جرت على نعت أحكام الخلق في الدُّنْيا من توجيه الدعوى والجواب والشهادة، قاله الزَّين بن المنيِّر: وقال التُّوْرِبِشْتي: المراد من هذه الشَّهادة اشتهار المشهود له يوم القيامة بالفضل وعلو الدرجة، كما أن الله يفضح بالشهادة قومًا فكذلك يكرِّم بالشهادة آخرين.