قال ابن المنير: الاستدلالُ بحديث ابن عمر أوجَهُ من غيره، أي لأجل ما وُجِّهَت به المطابقة. وقال ابن منده: حديث عبد الله بن دينار مُجمَعٌ على صحته، رواه جماعة من أصحابه عنه ورواه شعبة فاختُلف عليه فيه، رواه يزيد بن هارون عنه على الشك:((أن بلالاً كما هو المشهور أو أن ابن أم مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال)).
قال: ولشعبة فيه إسناد آخر فإنه رواه أيضاً عن خُبيب بن عبد الرحمن عن عمته أُنيسة، فذكره على الشك أيضاً. أخرجه أحمد عن غندر عنه، ورواه أبو داود الطيالسي عنه جازماً بالأول، ورواه أبو الوليد عنه جازمًا بالثاني، وكذا أخرجه ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان من طرق عن شعبة، وكذلك أخرجه الطحاوي والطبراني من طريق منصور بن زاذان عن خُبيب بن عبد الرحمن، وادعى ابن عبد البر وجماعةٌ من الأئمة بأنه مقلوبٌ وأن الصواب حديث الباب.
قال شيخنا: وقد كنتُ أميل إلى ذلك إلى أن رأيتُ الحديث في «صحيح ابن خزيمة» من طريقين آخرين عن عائشة وفي بعض ألفاظه ما يُبعِد وقوع الوهم فيه وهو قوله: ((إذا أذن عمرو فإنه ضرير البصر فلا يغرنَّكم، وإذا أذن بلال فلا يَطعَمَنَّ أحد)). وأخرجه أحمد. وجاء عن عائشة رضي الله عنها أيضاً: أنها كانت تذكر حديث ابن عمر وتقول: إنه غلط. أخرج ذلك البيهقي من طريق الدَّرَاوردي عن هشام عن أبيه عنها فذكر الحديث وزاد: قالت عائشة: وكان بلال يُبصر الفجر. قال: وكانت عائشة تقول: غلط ابنُ عمر. انتهى.
وقد جمع ابنُ خزيمة والضَّبعي بين الحديثين بما حاصله أنه يَحتمل أن يكون الأذان كان نُوَباً بين بلال وابن أم مكتوم -كما قدمنا - فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلِم الناس أن أذان الأول منهما لا يُحَرِّم على الصائم شيئاً ولا يدل على دخول وقت الصلاة بخلاف الثاني، وجزم ابنُ حبان بذلك ولم يَعُدَّهُ احتمالا. وأنكر ذلك عليه الضياء وغيره.
وقيل: لم يكن نُوَباً وإنما كانت لهما حالتان مختلفتان، فإنَّ بلالاً كان في أول ما شُرع الأذان يؤذِّنُ وحده ولا يؤذن الصبحَ حتى يطلُع الفجر، وعلى ذلك يحتمل روايةَ عروة عن امرأةٍ من بني النجار قالت: كان بلاٌل يجلس على بيتي وهو أعلى بيتٍ في المدينة فإذا رأى الفجر تمطَّى ثُم أَذَّنَ. أخرجه أبو داود وإسناده حسن. ورواية حُميد عن أنس: أن سائلا سأل عن وقت الصلاة ((فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأذن حين طلع الفجر)). الحديث. أخرجه النسائي وإسناده صحيح. ثم أُردِفَ بابن أم مكتوم وكان يؤذِّنُ بليل واستمر بلال على حالته الأولى.
وعلى ذلك تتنزل رواية أُنيسة وغيرِها، ثم آخرَ الأمر أُخِّرَ ابنُ أمِّ مكتوم لضعفه ووُكِّل به من يراعي له الفجر، واستقر أذان بلال بليل، وكان سببُ ذلك ما روي أنه كان ربما أخطأ الفجر فأذَّنَ قبل طلوعِه، وأنه أخطأ مرة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم