وابن المسيب والحسن وعطاء ومكحول، وروايةٌ عن مالك وأحمد. واستدلوا بقوله:(وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا)، لأن لفظ الإتمامِ واقعٌ على باقٍ من شيءٍ قد تقدم سائرُه، وروى البيهقي من حديث عبد الوهاب بن عطاء عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه: ما أدركتَ فهو أول صلاتك. وعن ابن عمر بسند جيدٍ مثلُه.
الثاني: أنه أول صلاته بالنسبة إلى الأفعال فيَبني عليها، وآخرها بالنسبة إلى الأقوال فيقضيها، وهو قول مالك. وقال ابن بطال عنه: ما أدرك فهو أول صلاته إلا أنه يقضي مثل الذي فاته من القراءة بأم القرآن وسورة، وقال سُحنون: هذا الذي لم يُعرف خلافُه، دليلُه ما رواه البيهقي من حديث قتادة: أن علي بن أبي طالب قال: ما أدركتَ مع الإمام فهو أولُ صلاتِك، واقض ما سبقك به من القرآن.
الثالث: أنَّ ما أدرك فهو أولُ صلاتِه إلا أنه يقرأ فيها بالحمد وسورةٍ مع الإمام، وإذا قام للقضاء قضى بالحمدِ وحدَها، لأنه آخرُ صلاتِه، وهو قول المزني وإسحاق وأهل الظاهر.
الرابع: أنَّهُ آخِرُ صلاتِه وأنه يكون قاضيًا في الأفعال والأقوال، وهو قول أبي حنيفة وأحمد في رواية، وسفيان ومجاهد وابن سيرين. وقال ابن الجوزي: الأشبهُ بمذهبنا ومذهبِ أبي حنيفة أنه آخرُ صلاتِه، وقال ابن بطال: رُوي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وإبراهيم النخَعي والشعبي وأبي قلابة، ورواه ابنُ القاسم عن مالك، وهو قول أشهب وابن الماجِشون، واختاره ابنُ حبيب، واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:((وما فاتكم فاقضوا)). ورواه ابنُ أبي شيبة بسندٍ صحيح عن أبي ذر، وابنُ حزم بسندٍ مثلِه عن أبي هريرة، والبيهقيُّ بسندٍ لا بأس به على رأي جماعةٍ عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه.
قال العيني أيضًا: والجواب عمَّا قال الشافعي ومن تبعه وهو قولُه: (فَأَتِمُّوا) أنَّ صلاةَ المأموم مرتبطةٌ بصلاة الإمام، فحُمِل قولُه:(فَأَتِمُّوا) على أنه من قضى ما فاته فقد أتمَّ، لأن الصلاة تنقُصُ بما فات، فقضاؤه إتمامٌ لما نقص.
فإن قلتَ: قال النووي: وحجة الجمهور أن أكثر الروايات: (وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا)، وأجيب عن رواية:((واقض ما سبقك)) أن المراد بالقضاءِ الفعلُ لا القضاءُ المصطلح عليه عند الفقهاء، وقد كثُرَ استعمال القضاء بمعنى الفعل، فمنه قوله تعالى:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ}[فصلت: ١٢]. وقوله:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ}[البقرة: ٢٠٠]. وقوله تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ}[الجمعة: ١٠]. ويقال: قضيتُ حقَّ فلان، ومعنى الجميعِ: الفعلُ.
قال أيضًا: أما الجواب عن قوله: (فَأَتِمُّوا) فقد ذكرناه آنفا، وأما قوله: المراد بالقضاءِ الفعلُ، فمشترك الدلالة، لأن الفعل يُطلق على الأداء والقضاء جميعًا، ومعنى:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}[فصلت: ١٢] : قدَّرَهُنَّ، ومعنى {قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ}[البقرة: ٢٠٠] : فرغتُم عنها، وكذا معنى {فَإِذَا قُضِيَتِ}[الجمعة: ١٠]. ومعنى: قضيتُ حقَّ فلان، أنهيتُ إليه حقه، ولو سلمنا أنَّ القضاء بمعنى الأداء فيكون مجازًا، والحقيقةُ أولى من المجاز، ولا سيما على أصلهم أن المجازَ ضروري لا يُصار إليه إلا عند الضرورة والتعذر.