اختلف الفقهاء في الإبراد بالصَّلاة، فمنهم من لم يردَّه، وتأوَّل الحديث على إيقاعها في برد الوقت وهو أوَّله، والجمهور من الصحابة والتَّابعين وغيرهم على القول به، ثمَّ اختلفوا فقيل: إنَّه عزيمة، وقيل: واجب تعويلًا على صيغة الأمر، وقيل: رخصة، ونصَّ عليه في «البويطي»، وصحَّحه الشيخ أبو علي من الشافعيَّة، وأغرب النَّوَوي فوصفه في «الروضة» بالشذوذ، لكنَّه لم يحكِه قولًا، وبنوا على ذلك: أنَّ من صلَّى في بيته أو مشى في كُنٍّ إلى المسجد هل يسنُّ له الإبراد؟ إن قلنا: رخصة، لم يسنَّ له؛ إذ لا مشقَّة عليه في التعجيل، وإن قلنا: سنَّة، أبرد وهو الأقرب لورود الأثر به مع ما اقترن به من العلَّة من أنَّ شدَّة الحرِّ من فيح جهنَّم، وقال صاحب «الهداية» من أصحابنا: يستحبُّ الإبراد بالظُّهر في أيَّام الصَّيف، ويستحبُّ تقديمه في أيَّام الشِّتاء.
فإن قلت: يعارض حديث الإبراد حديث إمامة جبريل عليه السَّلام؛ لأنَّ إمامته في العصر في اليوم الأوَّل فيما إذا صار ظلُّ كلِّ شيء مثله، فدلَّ ذلك على خروج وقت الظُّهر، وحديث الإبراد دلَّ على عدم خروج وقت الظُّهر؛ لأنَّ اشتداد الحرِّ في ديارهم في ذلك الوقت، قال العَيني: الآثار إذا تعارضت لا ينقضي الوقت الثابت بيقين بالشكِّ، وما لم يكن ثابتًا بيقين هو وقت العصر لا يثبت بالشكِّ.
فإن قلت: هل في الإبراد تحديد؟ قلت: روى أبو داود والنَّسائي والحاكم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((كان قدر صلاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الظُّهر في الصَّيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام، وفي الشِّتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام))، فهذا يدلُّ على التحديد.
اعلم أنَّ هذا الأمر مختلف في الأقاليم والبلدان، ولا يستوي في جميع المدن والأمصار، وذلك لأنَّ العلَّة في طول اللَّيل وقصره هو زيادة ارتفاع الشَّمس في السَّماء وانحطاطها، فكلَّما كانت أعلى وإلى محاذاة الرؤوس في مجراها أقرب كان الظلُّ أقصر، وكلَّما كانت أخفض ومن محاذاة الرؤوس أبعد كان الظلُّ أطول، وكذلك ظلال الشِّتاء تراها أبدًا أطول من ظلال الصَّيف في كلِّ مكان، وكانت صلاة رسول الله صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم بمكَّة والمدينة - وهما من الإقليم الثَّاني - ثلاثةَ أقدام، ويذكرون أنَّ الظلَّ فيهما في أوَّل الصَّيف في شهر آذار ثلاثة أقدام وشيء، ويشبه أن تكون صلاته إذا اشتدَّ الحرُّ متأخِّرة من الوقت المعهود قبله، فيكون الظلُّ عند ذلك خمسة أقدام، وأما الظلُّ في الشِّتاء فإنَّهم يذكرون إنَّه في تشرين الأوَّل خمسة أقدام أو خمسة وشيء، وفي الكانون سبعة أقدام أو سبعة وشيء، فقول ابن مسعود منزَّل على هذا التقدير في ذلك الإقليم دون سائر الأقاليم والبلدان الَّتي هي خارجة عن الإقليم الثَّاني. انتهى.
قلت: الأقاليم سبعة: فالأوَّل من جهة خطِّ الاستواء، والإقليم الثَّاني ثلاثة، ففي الأوَّل بحر الصِّين وبحر الهند والنوبة والحبشة، وفي الثَّاني الصِّين والهند والسند ومكران وكرمان وخليج فارس وجزيرة العرب وغير ذلك، وكلُّ إقليم يمتدُّ ما بين الخافقين طولًا، أي يكون كلُّ إقليم من الأقاليم السبعة على شكل طولي فيكون عرضه قدرًا قليلًا، وهو ما يوجب تفاضل نصف ساعة في مقادير النَّهار الأطول. انتهى.