للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من علية القوم، يعيش في قصر في قلب البلد، لا وإنما يعيش في ضواحيه، وأطرافه وكما قال بعض المفسرين: أنه كان يعمل (إسكافاً) وهي مهنة بسيطة دنيئة. لكن الإيمان الذي وقر في قلبه، حمله على أن يشعر بعزة الإيمان، واستعلائه، فيصيح بين ظهراني قومه، قائلاً: "يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ"، دون سابق ممارسة، واعتياد. وإنما يتكلم الإنسان، ويمتلك الشجاعة الأدبية، لما يقوم في قلبه من الإيمان العميق بالحق الذي يعتقده. فلماذا نتلجلج أحياناًً؟ ولماذا نتلكأ؟ ولماذا نحجم؟ إن هذا ناتج عن ضعف الإيمان، وبرودة المعاني التي نعتقدها، أما إذا حَيَت في قلوبنا هذه المعاني، فإنها ستظهر على فلتات اللسان، وحركة الأبدان، للتعبير عنها.

الوقفة الخامسة: "اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ": هاهو يناظرهم، ويجادلهم، ويشير إلى بعض نقاط الخلاف بين قومه وبين أولئك الرسل الكرام الذين أرسلوا إليهم، ثم يسوق الحجج العقلية، والفطرية، فيقول: "وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ"

هذا مثال لمؤمن حمله إيمانه الحق الصادق، على أن يجهر بدعوته، لا يجمجم، ولا يهمهم، وإنما يأتي بها صريحة، واضحة، بينة، في منتديات الناس. إيمان فاعل، إيمان ناشط، إيمان واعٍ؛ يدرك تبعاتها، وآثارها، وما سوف تجر عليه من مسؤوليات، لكن ذلك لم يمنعه ولهذا قال ذلك الكلام بين ظهراني قومه، ونادى بملأ فيه: "إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ " فقتله قومه شر قتله، حتى ذكر بعض التابعين الذين يروون عن أهل الكتاب أن قومه وطئوه بأقدامهم حتى قضوا عليه، وقيل أنه قطعوه إرباً.

ولكن القصة لم تنتهِ عند هذا الحد! يظل الإيمان الفاعل يحمل صاحبه على النصح للآخرين، قائماً، فبعد أن بُشِّر:"قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ"! سبحان الله! حتى بعد الموت، والفوز بالجنة، لا يزال في قلبه الشعور بالرغبة في العطاء، الرغبة في البذل، والنصح للآخرين. ولم يشأ أن يتشفى بهم، أو يجعل ذلك ذريعةً للنيل منهم، وإنما تمنى من سويداء قلبه أن يعلم قومه بعاقبته، لعل ذلك يحملهم على أن يقبلوا نصحه. قال قتادة: لا تلقى المؤمن إلا ناصحا، لا تلقاه غاشا؛ لَمَّا عاين من كرامة الله. وقال ابن عباس: نصح قومه في حياته بقوله: "يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ"، وبعد مماته في قوله: " يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ"رواه ابن أبي حاتم. قال ابن كثير، رحمه الله: (ومقصوده: أنهم لو اطلعوا على ما حصل من هذا الثواب، والجزاء، والنعيم المقيم، لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل، فرحمه الله ورضي عنه، فلقد كان حريصا على هداية قومه)

ثانياً: قصة الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه:

<<  <  ج: ص:  >  >>