الخطباءُ وأفكارُ المنبر
أحمد بن عبد المحسن العساف
البحثُ عنْ فكرةٍ لخطبةِ الجمعةِ منْ التحدِّياتِ التي تواجهُ كلَّ خطيبٍ يرجو ما عندَ الله؛ لأنَّ الخطبةَ المؤثرةَ الباهرةَ تحتوي على عنصرينِ مهمَّين هما: الفكرةُ والبيانُ ويزينُهما الأداءُ الخطابيُ المتقن. وإذا ما تخلَّفتْ الفكرةُ فالخطبةُ مجرَّدُ كلامٍ لا يؤثرُ طويلاً، وقدْ تكونُ الفكرةُ حاضرةً لكنْ ينقصُها البيانُ العذبُ والكلماتُ الفخمة، وكمْ منْ حقٍّ ضاعَ بسوءِ التعبيرِ وكمْ كمْ منْ باطلٍ سرى بطلاوةِ الكلامِ وحلوِ الحديث.
ولخطبةِ الجمعةِ مكانٌ سنيٌ في تاريخِنا وأثرٌ بهيٌ على المجتمعِ المسلمِ حتى شَرِقَ بها المنافقونَ على اختلافِهم وحاكوا لها الأكفانَ بدعواتِهم المشبوهةِ لتوحيدِ الخطبةِ أوْ تحديدِها أوْ جعلِها نشرةً محليةً لا يأبهُ لها أحد، إضافةً إلى ما يتعرَّضُ له الخطباءُ منْ رقابةٍ غليظةٍ ومحاسبةٍ دقيقةٍ منْ عدَّةِ جهاتٍ في عصرٍ يزعمُ كثيرٌ منْ أهلهِ أنَّه زمنُ حريةِ الرأيِ وتعدُّدِ وجهاتِ النَّظر.
وقدْ كتبَ عددٌ منْ العلماءِ والفضلاءِ فيما يخصُّ تحضيرَ الخطبةِ أوْ إلقائَها وأثروا الساحةَ حتى يستفيدَ حديثُ العهدِ ويتجدَّدَ الخبير، وكتبُهم ومقالاتُهم مطبوعةٌ متداولةٌ إنْ ورقيةً أوْ حاسوبية، وأمَّا الدِّراساتُ المعتنيةُ بصناعةِ فكرةٍ للخطبةِ فنادرة؛ ولعل َّهمَّةَ أحدِ الخطباءِ المصاقعةِ ترِدُ هذا الرَّوضَ الأُنُف؛ فالفكرةُ عزيزةُ المنالِ صعبةُ البلوغِ ولا تتأتي لأيِّ أحدٍ بيسرٍ بلْ قدْ تتمنَّعُ على الفطاحلِ الكبارِ والأساطينِ العظامِ لا عنْ عجزٍ واستحالةٍ؛ وإنَّما لصعوبةِ الموقفِ وهولِ المطلعِ فارتقاءُ المنابرِ والخطابةُ أمورٌ تشيبُ منها المفارق.
والفكرةُ إمَّا أنْ تكونَ جديدةً لمْ يُسبقْ إليها، وقدْ تكونُ قديمةً لكنَّها تُبعثُ بطريقةٍ إبداعيةٍ أوْ منْ وجهٍ لمْ يطرقهُ أحد؛ وكمْ تركَ الأولُ للآخر، والموفقُ مَنْ أعانهُ اللهُ ورزقهُ النّيةَ الصَّادقةَ الباعثةَ على الجدِّ والبحثِ والاستقصاء، لأنَّ الأفكارَ تُحدِثُ تغييراً في المجتمعِ ولا بدَّ منْ معرفةِ كيفيةِ الحصولِ عليها وبثِّها كمفهومٍ قابلٍ للانتشارِ والبقاء؛ وما أعظمَ الفرقَ بينَ فكرةٍ خالدةٍ وأخرى بائدة.
ولصناعةِ فكرةٍ مناسبةٍ للمنبرِ عدَّةُ سُبُلٍ تنفعُ الخطيبَ والكاتبَ والمتحدِّثَ والمسوِّقَ ومصممي الإعلاناتِ وغيرِهم، وحديثُنا هنا مقصورٌ على الخطباء؛ وقدْ سبقَ كتابةُ مقالٍ للكتَّابِ بعنوانِ "صناعة الفكرة"، وهذا المقالُ عالةٌ عليهِ معْ بعضِ الزِّيادةِ والتطوير، ومنْ السبلِ المقترحةِ لصناعةِ فكرةٍ للخطبة:
١. التفكير: وهو أكبرُ مصنعٍ لها؛ وبواسطتهِ تتولَّدُ الأفكارُ منْ الطرقِ التي بعدَه، ومنهُ التفكيرُ بصيغةِ المستقبلِ حيثُ أنَّ رؤيةَ مستقبلٍ غيرَ مرغوبٍ فيهِ-مثلاً- تقودُ إلى إصلاحِ الحاضرِ والمستقبل؛ فوجودُ نسبةٍ عاليةٍ منْ البطالةِ بينَ الشبابِ تعني -تلقائياً- زيادةَ معدَّلِ الجريمة. ومنهُ التفكيرُ بصيغةِ "ماذا لو"؛ ومنْ الأمثلةِ على ذلكَ ماذا لوْ أنَّ المسلمينَ يحكمونَ العالم؟ ثمَّ يسردُ الخطيبُ وقائعَ تاريخيةً ثابتةً عنْ العدلِ الإسلامي الذي لمْ يحتجْ لمحكمةِ عدلٍ ولا هيئةِ أمم!
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute