حَتّى لا يَتَهاوَى القٌدَواَت
د. حمزة بن فايع الفتحي
٩ رمضان ١٤٣١هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، ومن والاه
وبعد
فإن من الإشعاعات الإيمانية التي ينشرها الله في حياة الأمة المسلمة، بزوغ أنوار تشرق في العلم، والعمل التربية والسمت الحسن، ربما تعلم الناس من هديهم وأخلاقهم أكثر من محاضراتهم ودروسهم، وقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فاتحة الاقتداء، وعنوان الائتساء، من حين ما قال الله تعالى:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الاحزاب: ٢١].
وجعل الله تعالى منهج الاقتداء بين الناس سنة متوارثة، ينقلها جيل إلى جيل، فقال عز وجل:
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} [الانعام: ٩٠].
وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: ١٢٣].
ولم يحك الله تعالى عشرات القصص القرآني والأخبار التاريخية إلا لمزيد القدوة والاعتبار.
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف: ١١١].
وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف: ٣٥].
وقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: ٤٩].
ومن هذا المنهاج النبوي، ومن المدرسة المحمدية يبزغ علماء وصالحون، ومربون وعباد ينفع الله بعلومهم وأعمالهم وتعبق أخلاقهم ومواقفهم، ويصبحون حديث الناس حسناً وحباً وأقتداء، بسبب صدقهم وعلمهم، وجمال دينهم وإخباتهم.
ومن ثم يصبح لهم قبول عارم، وشعبية هائلة، وصيت زاحف، ومع ظهور وسائل الإعلام المتدفقة، صاروا نجوماً يُهتدى بها، ومنارات يُستضاء بذكرها وفتاويها.
وهذا مكسب باهر للدعوة الإسلامية، خليق بنا أن نحافظ عليه، وأن نعزز جذوره وقوائمه، لأن التربية بالقدوة أفق تأثير باذخ، وسبيل نصر قادم، ورب كلمة، أو وقفة، أو سلوك لعالم رباني، تبلغ ما بلغ الليل والنهار، ولا يزال الناس يتحدثون عن قدوات ربانية كأبي حنيفة وأحمد والشافعي والأوزاعي والثوري وابن المبارك، ... وابن باز والألباني وابن عثيمين وغيرهم
لم تنقض مباهجهم، ولا جفت مكارمهم، رحمهم الله تعالى ..
لكن من الملحوظ في هذا الزمان الصعب المتغير، وتعاظم الفتن، وقلة الناصحين، وغياب المنهجية الدعوية المتكاملة، يبدو في الآفاق تناقص في الأخيار، وتهاوِ في القدوات، وخلط في المفاهيم واستفراد الأفاضل المؤثرين، مما يعنى تغيراً في المنهج، وتجديداً في السلوك، ومراجعة في الفتاوى، واستسلاماً للضغوطات، التي تتفق والمنهج الإسلامي القويم.
ولذا أحببت أن أنبّه هنا على خطورة تهاوي القدوات ونقص الفضلاء، كي لا نندب حظنا، ولنحافظ على مكاسبنا، ولنحقق مبدأ (التواصى بالحق)، والتواصى بالصبر، ولتبقى المسألة الدعوية الطاهرة، مصونة عن نقد فادح، أو ثلب ذامٍ وجارح. إن تهاوي بعض القدوات السابقة، والأسماء اللامعة، التي انتفعت بها الأمة، أمر مرير، مكدر للدعوة وأهلها، وفرصة للمنافقين أن يتشدقوا وينتقموا ... !
أما بالنسبة لأسباب التهاوي والتغير فهي كالتالي:
١) الاتكال على الشهرة: قال تعالى: {فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: ٢ - ٣].