[أدلة إثبات أن جدة ميقات]
للشيخ عدنان العرعور
عرضٌ ونقد
كتاب هذا الشهر يتناول مسألة من مسائل الحج تتعلق بالمواقيت، وهي الخلاف في اعتبار مدينة جدة ميقاتا، وكاتبه هو الشيخ الفاضل عدنان العرعور الذي انتهى إلى اعتبار جدة ميقاتا، وهذا الكتاب وإن كان قد صدر منذ فترة إلا أن الخلاف في المسألة ما زال باقيا، لذا سنعرض محتوى هذا الكتاب، ونذكر أهم ما أُخذ عليه.
أولا: عرض الكتاب:
بعد أن قدم المؤلف بين يدي كتابه بمقدمة، بيَّن فيها أن هذا البحث هو اختصار لبحث مطول، أودع فيه من التفاصيل الدقيقة التي يصعب تناولها من عموم المسلمين، لذا عمد إلى اختصاره في رسالة لا تتجاوز ستين صفحة. وذكر أن المسألة ليست اجتهادية بقدر ما هي تطبيقية، وأنها لا تتعدى معرفة المعنى الصحيح للمحاذاة، وإنزاله على الواقع.
بعد المقدمة ذكر بعض الاصطلاحات المستخدمة في رسالته كالقاصد والميقات الأصلي والإضافي إلى غير ذلك مبينا تعريفها.
وتحت عنوان (بين يدي المواقيت) ذكر المواقيت المحددة شرعا ومدى بعدها عن مكة.
لينتقل بعد ذلك إلى ذكر بعض أحكام المواقيت والمقصود منها، فذكر سبعة أمور منها: أن المواقيت نقاط لإعلام القاصدين ببدء النسك ووجوب الإحرام منها، وأنها موزعة حول الحرم ليتشكل منها محيط المواقيت، وأنه ليس لها قدسية خاصة لذاتها، لذا تكلم عن جواز الإحرام مما يحاذي هذه المواقيت، وقسم المواقيت إلى قسمين أصلية وإضافية، ثم تكلم عن عدد المواقيت الإضافية وأنها بعدد النقاط المحاذية للمواقيت الأصلية.
ثم تكلم عن أهمية تحديد المحاذاة، والدليل على جواز الإحرام من المحاذاة، وبيَّن معنى المحاذاة، وأنها تتحقق بوقوع الموضع بين مكانين وعلى خط واحد، وأيضا بمجاورة المكان أو الملاصقة له، وكذلك بكون مسافة الموضع من مكة تساوي أقرب المواقيت إليه.
ثم تكلم عن كيفية تحديد محيط المواقيت، وقام بتطبيق معنى المحاذاة على الساحل الغربي.
وذكر الشيخ أدلة ستة على أن جدة محاذية وهي:
١ - أنه بوصل خطوط بين المواقيت نجد أن جدة تقع على هذا المحيط.
٢ - مساواة مسافة جدة عن مكة مع أقرب ميقات لها.
٣ - اتفاق أهل العلم أن من لم يدرك المحاذاة يحرم من مسافة مرحلتين.
٤ - أنه لا محاذاة في البحر البتة.
٥ - أن كل بقعة على سطح الأرض لا تخلو من ثلاث حالات:
* إما أن تكون داخل المواقيت.
* أو خارج حدود المواقيت.
* أو واقعة على المحيط نفسه.
أما الحالة الأولى: فيعني هذا الزيادة على مسافة المحاذاة وهذا مردود شرعاً وواقعاً.
وأما الحالة الثانية: فلا يقول بها أحد.
وأما الحالة الثالثة: فهي المتعينة فتكون جدة ميقاتاً.
٦ - قياس القادمين من الغرب على القادمين من الشرق.
ثم ذكر الشيخ من قال بهذا من أهل العلم، وتكلم عن حكم من مرَّ من ميقات إلى ميقات آخر ثم أحرم منه، ثم ذكر مسألة مِن أيِّ مكان من جدة يحرم القاصد، وقد أصبحت مدينة كبيرة.
هذا هو مضمون هذه الرسالة وأهم ما ورد فيها.
ثانيا: النقد:
فكرة الكتاب تقوم على إثبات أن مدينة جدة تعتبر من المواقيت؛ لأنها تحاذي أقرب المواقيت إليها، وعلى اصطلاح المؤلف من المواقيت الإضافية، وقد أصَّل لذلك بالكلام عن المحاذاة ثم سرد الأدلة على أن جدة محاذية، وسنذكر بعض المؤاخذات على ما ذكره مما نبه عليه أهل العلم:
١ - القاعدة في تحديد المواقيت غير المنصوص عليها بالمحاذاة صحيح، لكن حَد المحاذاة الذي ذكره المؤلف لا يسلم بإطلاق، فتفسيره للمحاذاة بكون الموضع المحاذي واقعاً بين ميقاتين على خط واحد، فهذا غير مسلم لغة وشرعاً وذلك للآتي:
* أن كلمة (حذا) في اللغة لا تدل على تسمية المكان الواقع بين مكانين محاذياً.
* أنه حتى لو صح هذا المعنى لغة، فإنه لا يصح شرعاً؛ لأنه سيؤدي إلي أنَّ أي مكان واقع بين مكة والمدينة يسمى محاذياً للمواقيت، فيجوز الإحرام منه؛ لأنه يصدق على مكة اسم مكان كما يصدق هذا الاسم على المواقيت أيضا.
* أن هذا التفسير للمحاذاة وهو كون المكان واقعاً بين ميقاتين على خط واحد مخالف لتفسير أهل العلم، وفي وضع هذا الخط المحيط بالمواقيت ربط للمحاذاة بميقاتين وليس بميقات واحد، وهذا خطأ واضح في فهم المحاذاة.
٢ - تفسير المحاذاة بكون مسافة المحاذي والمحاذى به عن مكة متساوية فصحيح، إلا أن تنزيله على مدينة جدة وكونها محاذية للجحفة أو يلملم غير صحيح، وذلك لأن مسافتها عن الحرم متفاوتة وليست سواء، فمسافة جدة عن الحرم تقارب سبعين كيلاً، بينما مسافة الجحفة عن مكة تقارب مائة وسبعة وثمانين كيلاً، ومسافة يلملم عن مكة أربع وتسعون كيلاً، فكيف نقول بالمحاذاة وهي تساوي بعد المكانين عن الحرم مع هذا التفاوت الظاهر، كما أن جدة تقع في جهة أخرى غير جهة يلملم.
٢ - قوله: إنه لا محاذاة في البحر البتَّة.
يجاب عنه: بعدم التسليم بأنه لا محاذاة في البحر فهذا مخالف لما ذهب إليه كثير من أهل العلم من وجوب الإحرام على من كان البحر طريقه إلى مكة إذا حاذى الجحفة أو يلملم, بل المحاذاة حاصلة لمن كان البحر طريقه ولا تتعذر المحاذاة في البحر، كما أننا نقول بأنه لا ميقات في البحر، ولكن يمكن محاذاة ميقات الجحفة ويلملم، وهما قريبان من البحر وليست محاذاتهما متعذرة للقادم من الشمال أو الجنوب.
٣ - استدلاله بأنَّ مدينة جدة لا تخلو:
إما أن تكون داخل المواقيت أو خارجها أو تقع على المحيط نفسه.
وأن الحالة الثالثة هي المتعينة فتكون جدة ميقاتاً.
فيجاب عنه: بأن هذا التقسيم قائم على تفسير أصحاب هذا القول للمحاذاة، وإثباتهم أن جدة محاذية لميقاتي الجحفة ويلملم، وهذا قد أجبنا عنه، ومدينة جدة واقعة داخل المواقيت، وليست محاذية لأحدها؛ لكونها أقرب إلى مكة من ميقاتي الجحفة ويلملم، ولذا فالواجب على القادم من الشام ومصر برًّا وبحراً وجوًّا الإحرام من الجحفة أو ما كان حذوها، وكذا القادم من اليمن سواء كان ذلك برًّا أو بحراً أو جواً فإنه يحرم من يلملم.
٤ - قوله: (إذا عرف هذا وفهم ما قد سلف من المقصود من المواقيت وأن ليس لها قدسية في ذاتها وأنها للإحاطة والإعلام عرف أنه لو تجاوز متجاوز ثم رجع إلى ميقاته أو إلى ميقات آخر ثم أحرم منه فلا شيء عليه). وقوله: (إذ المقصود ألا يتجاوز القاصد المحيط إلا محرما من أي نقطة شاء). واحتج أن ابن عمر أحرم من الفرع وعائشة أحرمت من الجحفة وهذا لا يكون إلا بعد مجاوزة ذي الحليفة أو مجاوزة محاذاتها. وذكر أنه وقف على فتوى للشيخ ابن باز تؤيد ذلك.
قوله هذا فيه نظر، فقوله صلى الله عليه وسلم: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) يفيد وجوب الإحرام من هذه المواقيت لأهل تلك الجهات ومن مر عليها من غير أهلها، فلا يجوز تجاوزها دون إحرام فإن جاوزها وجب الرجوع إليها والإحرام منها، أفتى بذلك: ابن عباس وابن الزبير وعليه الجمهور.
أما احتجاجه بما ورد عن ابن عمر وعائشة وأنه لا يمكن لأهل المدينة أن يحرموا إلا من هذين المكانين فقد أجاب عن أثر ابن عمر وعائشة الإمام أحمد بأنهما خرجا من مكة إلى الجحفة للإحرام منها ولم يكتفيا بالخروج إلى التنعيم ولم يكن خروجهما من المدينة كما ظن الشيخ.
وأما قوله: (لا يمكن لأهل المدينة أن يحرموا إلا من هذين المكانين). فيجاب عنه بأن هناك طرقا متعددة تسلك بين مكة والمدينة، يقول ابن قدامة: (فإن مَن مرَّ مِن غير طريق ذي الحليفة فميقاته الجحفة).
أما ما ذكر عن ابن باز فلا يدل على ما ذهب إليه، وقد صرح الشيخ بغير ذلك في إحدى فتاويه فقال: (يلزمهم أن يعودوا إلى ميقاتهم إذا كانوا قادمين للحج أو العمرة، ولا يجوز لهم تجاوز الميقات بدون إحرام؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لما وقت المواقيت لأهل المدينة والشام ونجد واليمن وغيرهم قال: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة)) فلا بد أن يحرموا من الميقات الذي يمرون عليه إذا كانوا قاصدين الحج أو العمرة فيحرموا منه، فإذا تجاوزوه فإن عليهم الرجوع إليه، فإن تجاوزوه ولم يرجعوا وأحرموا بعده لزمهم دم، وهكذا إن عجزوا عن الرجوع إليه أحرموا من مكانهم وعليهم دم).
وبذلك أفتى أيضا الشيخ ابن عثيمين فقال: (وهذه المسألة التي ذكرها السائل أنه تجاوز الميقات بلا إحرام حتى وصل مكة ثم قيل له: ارجع إلى أقرب ميقات فأحرم منه، نقول له: إن هذه الفتوى ليست بصواب، وأن عليه أن يذهب إلى الميقات الذي مر به؛ لأنه الميقات الذي يجب الإحرام منه، كما يدل على ذلك حديث عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما الذي أشرنا إليه آنفاً. يعني حديث: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة)). انتهى كلامه.
هذا بعض ما تيسر نقله مما أخذ على هذه الرسالة، وقد قام بالرد عليها غير واحد من أهل العلم، منهم الشيخ ابن باز وهيئة كبار العلماء، ومن أراد الاستزادة فيمكنه الرجوع إلى:
(توضيح المبهمات في مسألة كون جدة ميقات)
كتاب (جدة داخل المواقيت ولن تكون ميقاتا لغير أهلها)
كتاب (المسائل المشكلة من مناسك الحج والعمرة)
كتاب (النوازل في الحج)
والله الهادي إلى الصواب، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.