للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[هوس التفسير السياسي]

بقلم: فهد العجلان

١١محرم ١٤٣٢هـ

تتملكني الدهشة والإعجاب كلما نظرت في بعض المواقف الصارمة لأئمة السلف من الأحكام الفقهية المتعلقة بالتعامل مع (السلطة السياسية).

ولو فتح الشخص صفحة ذلك التاريخ لانهالت على ناظريه عشرات القصص والأخبار في إنكار الدخول على السلاطين، أو تولي القضاء لهم، وإسقاط الرواية عمَّن وجدوه مترخصاً في ذلك، إلى مواقف أشد حسماً وصرامة كمثل ما روي أن (خلفاً البزار) رفض الرواية عن شيخه (الكسائي) بسبب أنه سمعه مرة يقول: سيدي الرشيد، فقال: (إن إنساناً مقدار الدنيا عنده أن يجعل من إجلالها هذا الإجلال لحري أن لا يؤخذ عنه شيء من العلم) (١).

وأتساءل مع القارئ الكريم: ما سبب هذه الصرامة المنهجية التي سلكها أولئك الأئمة؟

يحلو لكثير من الناس أن يبحث لها عن مبررات وأعذار؛ لأن ثَمَّ قناعة في التفكير الفقهي المعاصر بعدم رجحان مثل هذه

المواقف بناءً على قاعدة جلب المصالح ودفع المفاسد، وهي آراء قابلة في تفاصيلها للاجتهاد والأخذ والرد.

غير أن ما يدهش المتابع حقاً أن هذا الموقف في جملته قد كان صيانة ربانية وعناية إلهية لهذه الشريعة من حيث لا نشعر؛ لأن (التفسير السياسي) هو أعظم قوس جائرة سُدِّدت إلى جسد التراث الإسلامي؛ فكل الدراسات الفكرية المعاصرة التي أخذت تنبش في تاريخ الإسلام وتراثه كانت تعتمد بشكل رئيس على تأثير السياسة على النصوص الشرعية وطرائق الاستدلال والاجتهاد، وأن الأحكام والنصوص لم يكن مردُّها إلى التشريع والديانة بقدر ما هي متأثرة بواقعها الذي صاغته السياسة.

وحين يعرف المتابع حقيقة ما كان عليه العلماء في ذلك الزمن، وبُعدَهم عن السلطة، وتحاشيهم عنها، وتحفُّظهم من مجرد الدخول عليها أو تولي القضاء لديها، فإنه سيجد أن مثل هذا الاتهام ضرب من الهجاء والشتيمة لا أساس له من البحث العلمي.

يغطي التفسير السياسي مساحة واسعة في حركة خلايا العقل العَلماني المعاصر، ولو تعطل هذا التفسير لتوقفت حركة تلك القراءات عن البحث في تراث الفقهاء ونصوص السَّنة؛ فلا يقرأ الباحث منهم أي حكم أو ينظر في أي نص إلا ويفتش عن أثر السياسة في الموضوع، وبطريقة كسولة جداً لا تتعدى ربط أي نص شرعي بأقرب حدث سياسي، وتعليق أي حكم بأدنى سلطان

(فما من شيء في هذا التاريخ إلا وهو مبصوم بخاتم السياسة: الفكر، والفقه، والاجتماع، والاقتصاد، واللغة، والفن، والجغرافيا، والسيكولوجيا، بل النص الشرعي ذاته) (٢).

فكلها مصبوغة بالسياسة، ولم يبقَ ما هو خارج عن تأثير السياسة إلا شيء واحد، وهو ما يكتبه مثل هذا المؤلف، والبحوث والأفكار التي يقررها فهي بلا شك بعيدة عن تأثير السياسة التي تبصم على كل شيء.

ومع أن التفسير السياسي هو أكبر الأدوات التفسيرية التي يعتمدها هؤلاء في قراءتهم للتراث، وهو أكثرها شيوعاً وحضوراً؛ إلا أنه في الوقت نفسه أضعف نقطة وأهش زاوية يعتمدون عليها؛ فنشر نماذج وأمثلة للتفسير السياسي على السطح كافٍ لكشف المستوى الموضوعي والعلمي لتلك الدراسات، وأن هذا التفسير يعبر عن حالة مَرَضيَّة أكثر من تعبيره عن روح علمية.

فأحدهم يقرر تأثير السياسة على الشافعي؛ لأنه:

(الفقيه الوحيد من فقهاء عصره الذي تعاون مع الأمويين مختاراً راضياً) (٣).

ولشدة ضغط المرض السياسي خفي عليه معرفة مولد الشافعي الذي يعرفه الجميع وهو (سنة ١٥٠هـ)؛ أي: بعد زوال الدولة الأموية بثماني عشرة سنة.


(١) انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح: ٢/ ١٣٣.
(٢) السلطة في الإسلام، العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ، لعبد الجواد ياسين، ص ١٦٨.
(٣) الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، نصر حامد أبو زيد، ص ١٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>