للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[درس عملي في المحكم والمتشابه]

الاختلاط أنموذجاً

منصور بن حمد العيدي

يُشكِّل الحديث عن المحكم والمتشابه في هذه السنوات الأخيرة أهمية فائقة؛ لأننا نعيش وبامتياز ظاهرة الاستدلال بالمتشابه والإعراض عن المحكم، أو على الأقل محاولة تخريج النصوص المحكمة بأي نوع من أنواع التخريج بغية إبعادها عن ساحة الحكم بين الناس، وبالتالي إقصاء دلالتها عن التأثير في عموم المسلمين، ممّا يُمهِّد لإشاعة أي فكر منحرف في أوساطهم، لكون ما يحميهم من النصوص المحكمة في الكتاب والسنة قد أصبح وراء الظهور.

لا يخفى على المشتغلين بالعلم الشرعي أن من أنواع المتشابه: النصوص التي تحتمل معنى لا يكون مراداً للشارع الحكيم.

ولمّا كان الخصوم في المسائل كلُ يدّعي أن ما معه من النصوص مُحكم وما عند خصمه متشابه، اقتضى الحال أن يُبيّن بالمثال كيف يُعرف هذا النوع من المتشابه الذي هو أكثر الأنواع شيوعاً في هذا العصر.

وليكن أمر الاختلاط الذي أوجد فيه بعض الناس اليوم خلافاً في حكمه.

فسأذكر دليلاً واحداً لمانعيه وآخر لمبيحيه بغرض تجلية الأمر.

روى أبو داوود وغيره عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للنساء: ((استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق (أي: ليس لكن أن تسرن وسطها) عليكن بحافات الطريق)) فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به.

هذا النص الذي أمامك دلالته وموضوعه الأصلي هو: الأدب الذي ينبغي أن تتحلى به المرأة وهي في الطريق ألا وهو: البعد عن الرجال، ولهذا ترى أبو داود يبوب عليه باب مشي النساء مع الرجال في الطريق.

والتوجيه النبوي لا لبس فيه، صريح في دلالته: الأمر بلزوم النساء حافة الطريق إذا كان ثمة رجال، ولوضوح التوجيه النبوي كان امتثال الصحابيات رضي الله عنهن مباشراً دون استفصال.

والتعليل لهذا الأمر النبوي منصوص عليه: حصول الاختلاط (فاختلط الرجال مع النساء). ولوضوح هذه المعطيات لن يتردد طويلب العلم فضلاً عن المجتهد باستخلاص نتيجة هي: وجوب ابتعاد النساء عن الرجال في الطرقات، وإنما تنحاز المرأة إلى حافة الطريق فيكون بينها وبين الرجال مسافة يصح معها حينئذٍ أن يُقال أنها غير مختلطة بهم. وهذا الحكم مُفاد من النص بطريق المطابقة.

ويستطيع الفقيه بعد ذلك باستخدام عموم المعنى أو قياس الأولى أن يستنبط منع الاختلاط في غير الطرقات؛ فإنه إذا منع منه أشرف الناس بعد الأنبياء، في الطريق العابر، في الوقت القصير، في وضح النهار، مع وجود الحجاب، حالة الخروج من أطهر البقاع، بعد أشرف العبادات العملية: فمن باب أولى أن يمنع في أماكن المكث الطويل في أزمان الريب، والبعد عن الحجاب، وضعف الإيمان.

كل هذا لأنه (أي الفقيه) أمام نص لا يحتمل اللبس إلا على جهة المكابرة والسفسطة، وبالتالي لا يمكن بحال وصف هذا النص بالمتشابه، بل هو من الإحكام بمكان.

أما المجيزون فإنهم يستدلون على إباحته بما رواه البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري: (قال النساء للنبي - صلى الله عليه وسلم - غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن فكان فيما قال لهن: ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجابا من النار. فقالت امرأة: واثنين؟ فقال واثنين).

فهذا النص عند المجيزين محكم في إباحة الاختلاط.

وأقول بل هو في أمر الاختلاط في أحسن أحواله من المتشابه، إن لم يقل قائل: أنه لا تعلق له به البتة.

<<  <  ج: ص:  >  >>