للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[النشيد الراحل والغناء الحاضر]

د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف [أستاذ مشارك في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - الرياض.]

قد لا يُستغرب أن يكون التصوف مورداً لغناء المجون والفجور؛ إذ قد شهد بذلك من عاينَ مجالس الصوفية، وتحلَّى بطرقها، كما اعترف زكي مبارك قائلاً:

«قد لاحظت أن مجالس الصوفية كانت تنقلب أحياناً إلى مجالس فنية، فهي مجالس تُعقد ظاهراً لذكر الله، والغرض منها الغناء ..

وكانت مجالس الذكر مدرسة لتخريج المغنين .. فالصوفية تفرَّدوا بين رجال الدين بالتشيُّع للموسيقا والغناء، فأقبلوا على الغناء، وتفرَّدت الطريقة المولوية باستجازة العزف على الآلات الموسيقية على اختلاف أنواعها أثناء مجالس الذكر» (١).

ولا عجب أن الروافض يعوِّلون على تأجيج العواطف الرعناء وتحريك مشاعر البكاء والعويل؛ فدين القوم أكاذيب في المنقول، وحماقات في المعقول؛ فلا يمكن أن يروج الكذب والشطح إلا بامتطاء هذه العاطفة الهوجاء، والمشاعر العوجاء، والعارية من الدليل والبرهان .. وهذا ما أوصى به خامنئي شيعته - بمناسبة عاشوراء عام ١٤٢٦هـ - قائلاً: «إن مجالس العزاء (٢) مستمرة إلى يومنا هذا، ولا بد من أن تستمر إلى الأبد؛ لأجل استقطاب العواطف؛ فمن خلال أجواء العاطفة والمحبة والشفقة يمكن أن تُفهم كثير من الحقائق» (٣)!

لكن العجب أن يضاهي أولئك ويسلك سبيلهم طوائف من متسننة هذا العصر؛ فما كان يُسمَّى إنشاداً - في الماضي القريب - قد أضحى غناءً ومجوناً .. فالترخُّص المُفْرِط في النشيد أفضى إلى الافتتان بالمؤثرات الصوتية، والولع بمعالجة الأصوات وَفْق تقنيات الحاسوب، والهيام بالآهات والترنُّمات .. !

فهذا الركام المتتابع من الانفلات أوقع ولوغاً في غناء الفجور، وسماع المعازف، فانحدر بعض المنشدين إلى خمر النفوس ورقية الزنى والمجاهرة باستعمال ألحان وموسيقى المجون .. بل تفوَّه أحد المنحدرين بأن إظهار الموسيقى هو مقتضى الصراحة!

وهكذا البدع والانحرافات تبدأ شبراً، ثم تكون ذراعاً، ثم تصير باعاً، فأميالاً وفراسخ .. وكما قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل» (٤).

ومن المعلوم أن البقل ينبت في الأرض شيئاً فشيئاً لا يحسّ الناس بنباته (٥).

وهذه الأناشيد الموسيقية تحرِّك الشهوات الكامنة في النفس، وتثيرها تلك الأصوات والمعازف «فالنغمات المرتبة على النسب التلحينية هو المؤثر في الطباع فيهيجها إلى ما يناسبها، وهي الحركات على اختلافها» (٦).

فالأصوات الملحّنة تهيِّج وتحرِّك من كل قلب ما فيه من محبة مطلقة لا تختص بأهل الإيمان، «وكل إناء بالذي فيه ينضح»، فقد تحرِّك محبة الله تعالى، أو محبة الأوثان، والصلبان، والأوطان، والنسوان .. (٧).

كما أن هذه الأصوات المطربة يزداد أثرها وتعظم حركتها عند النسوان والصبيان والحيوان؛ لأنه ثوران الطباع، فيشترك فيه الإنسان والحيوان، وكلما ضعف العقل قويت حركة النفوس وتواجدها فرحاً أو حزناً .. لكنها حركة ووجد بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير (٨).


(١) التصوف الإسلامي، ١٩٣ - ١٩٥؛ بتصرف.
(٢) يعني: حماقات أتباعه من النحيب وضرب الصدور وإسالة الدماء ..
(٣) موقع علي الخامنئي مركز العهد الثقافي بدمشق ٤/ ٢/٢٠٠٦م.
(٤) أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى، ٢/ ٧٠٤.
(٥) انظر: الاستقامة لابن تيمية ١/ ٣٩٣، وإغاثة اللهفان ١/ ٣٧٤، ومدارج السالكين ١/ ٤٩٧.
(٦) الاعتصام للشاطبي ١/ ٢٨٠.
(٧) انظر: العبودية لابن تيمية ص ٧١، والاستقامة ١/ ٢٦١.
(٨) انظر: الاستقامة ١/ ٣٠٦، ٣٧٣. ومجموع الفتاوى ٢/ ٢٤٢، ١٠/ ٧٦. والاعتصام ١/ ٢٨٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>