[معايير تحديد أولويات المواجهة]
إبراهيم السكران
هناك فريق من الناس يشنع كثيراً على دعاة أهل السنة بالقول بأنهم لا يرتبون الانحرافات بشكل صحيح، فتراهم يردون على من يخالفهم في بعض الملفات الشرعية، ويدعون العلمانيين الأقحاح، أو يقولون أحياناً: سلِم منكم اليهود والنصارى ولم يسلم منكم مفكرون لازال يشملهم الإسلام. أو يقولون أحياناً: أهل السنة يحتاجون إلى الوعي بأي الحروب أولى بالمواجهة. أو يقولون في أحيان أخرى: هرم الانحرافات يقف بالمقلوب في الوعي السني!
وقد لاحظت أن أغلب من يردد هذه الحجج هم التيارات المنتسبة للاستنارة الإسلامية، والإصلاح السياسي، ويرددها -أيضاً- تيار جديد بدأ يظهر على الساحة الآن وهو تيار (الوطنية الإسلامية) وهو تيار يعلن -بمناسبة وبلامناسبة- ولاءه السياسي الكامل والمطلق، ويتعامل مع المخالفين على أساس أنهم "شركاء في الوطن"، ويؤسس شرعية مطالباته وقائمة أجندته الفكرية على أساس "ثوابت الوطن"، ويتحاشى بطريقة فوبيّة غريبة أية لغة يفهم منها البناء على أسس "عقائدية".
على أية حال .. لسنا معنيين كثيراً بمن يردد هذه الحجج، ولكن يعنينا هاهنا أن نحلل مدى شرعية هذه الحجج؟ وهل تتفق مع المنهج الدعوي عند أهل السنة، أم هي بدعة وإحداث في دين الله؟
حين نعيد تأمل هذه اللافتات التي يرفعونها حول "أولويات بيان الانحرافات والرد على المخالفين" نلاحظ أنها تنطوي على "معيار" ضمني، هذا المعيار هو بكل وضوح أن أولوية الرد على المخالف تتحدد على أساس "حجم الانحراف" فالملحد أولى بالرد من العلماني، والعلماني أولى بالرد من المخالف المنهجي لأهل السنة، والمخالف المنهجي لأهل السنة أولى بالرد على الخطأ الفقهي الجزئي، وهكذا.
ولذلك إذا رأو عالماً أو داعية يرد على "مخالف منهجي" لأهل السنة، قالوا له: سلم منك الملاحدة والعلمانيون وجئت ترد على من يشاركك أكثر الأصول والهموم؟!
هذا الموقف منعكس عن مقياس يجعل الأولوية مرتبطة بمراتب الانحراف ذاته.
فما مدى صحة هذا الموقف؟
الحقيقة أنه وبأدنى تأمل في طريقة السلف الصالح وأئمة الهدى فإن الباحث يعرف أن هذا معيار باطل مخالف للمنهج الدعوي عند أهل السنة، ومن تأمل ردود أهل السنة من الصحابة والتابعين وأئمة الأمصار من بعدهم فإنه سيلاحظ أن هناك معياراً مختلفاً كلياً.
فالمعيار عند أهل السنة لا يربط أولويات المواجهة بـ (حجم الانحراف)، وإنما يربط أولويات المواجهة بـ (حجم الحاجة إلى البيان).
تأمل معي بعض هذه النماذج، في الصحيحين أن عبد الله بن عمرو قال رجعنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر فتوضئوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فأخذ رسول الله ينادي بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار.
لو طبقنا معيار الطوائف الفكرية بأن البيان والرد يكون على (حجم الانحراف) لقلنا: لماذا يهتم النبي وينادي بأعلى صوته بقضية جزئية لا تتعدى أن بعض الناس بسبب السرعة نسوا جزءاً يسيراً من أقدامهم لم يمسه الماء؟! هل يسوغ أن نقول: الأمم من حول النبي فيهم اليهود والنصارى وعبدة النار والمشركون، والداخل الإسلامي يعاني من الفقر، ومع ذلك يعتني النبي بقضية جزئية تتصل بأحد جزئيات الطهارة؟
هذه التساؤلات لا يستطيع أن ينفك عنها العقل الذي تشبع بالمعيار الفكري بأن الرد والبيان يكون على حجم الانحراف، أما العقل الرصين الذي تشبع بالمعيار الشرعي بأن الرد والبيان يكون بحسب الحاجة إلى البيان فإنه يفهم هذا الفعل النبوي فهماً صحيحاً.