للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مقدمة كتاب ((منهج الأشاعرة في العقيدة)) الطبعة الجديدة]

الشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي

إنّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له، ومن يُضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:

فإنّ العالم البشري كله يشهد في هذا العصر من الاضطراب والضياع والفوضى، وسواد المستقبل، وتجهّم المصير ما يُرعب القلوب، ويُزلزل الأفكار، فهو أشبه ما يكون بسفينة مهترئةٍ تتقاذفها أمواج متلاطمة في غمرات بحر لجّي لا تجد من اجتيازها مناصاً، ولا من سطوته خلاصاً.

وقد أمسك بزمامها أمم كافرة عملاقة "تستعمل قوة العفاريت بعقول الأطفال" - كما قال جود -، ويحفزها التنافس الضاري إلى مزيد من الصراع والتهور والاندفاع، وتأتي أمم الكفر الأقلّ شأناً، فتحاول أن تثب وثبات كبرى؛ لتصل إلى مستوى الصراع مع العمالقة المسيطرين، وتبحث لنفسها عن موضع قدم في هذه السفينة الهائجة، وأصبح التفكير في هذا الواقع الأسود والمصير الكالح، هو الشغل الشاغل للمفكّرين والمتعلقين في الغرب وغيره، بل أصبح بفعل التدفّق الإعلامي الهائل من الهموم اليومية لرجل الشارع - كما يسمونه -، إذ ما من نشرة أخبار يسمعها، أو صحيفة يُطالعها، إلا ويجد فيها النذر الصارخة بهذا المصير، فأخبار الحروب والفتن، والانفجارات، والانهيارات، والزلازل، والانقلابات، والجفاف، والفيضانات، والكوارث، والانتحارات ... إلخ.

أصبحت من كثرة ما ترددت في ذهنه مثل: أخبار الرياضة، وأحوال الطقس!

ومع سباق التسليح الرهيب، والتنافس في نشر أسلحة الفتك المبيد، أحسّ الناس حقيقة بالهلع الذي يقض المضاجع، وهرع الفلاسفة والمفكرون إلى التنقيب عن حل للمعضلة الإنسانية الكبرى، وتلمّسوا أيّ مخرج للانعتاق من الظلمة الكثيفة التي غطّت وجه الأرض وردمت الإنسان في المفاوز المهلكة، والأحراج الشائكة.

ووصل الأمر بكثير منهم إلى الاقتناع المطلق بأنّ خلاص هذا العالم - إن قُدّر له الخلاص - لن يكون من داخله، وأن السفينة الهاوية إلى أعماق المحيط لن ينتشلها من هو قابع في داخلها.

ومع هذا لم يظهر - مع الأسف الشديد - ما يدل على أوبة صادقة إلى الله، واستجابة لدينه الحقّ الوحيد الذي ما زال غضّاً طريّاً في مسمع الدنيا ومرآها.

بل دفعت عوامل أخرى - ولا مجال هنا لتفصيلها، ولبيان ذنبنا نحن المسلمين فيها - إلى أن قامت كل أمةٍ من الأمم تشحذ همتها، وتقدح زناد فكرها، وتستلهم من عتيق حضارتها وماضي أسلافها؛ فمع إفلاس المذاهب الوضعيّة الحديثة ارتد الناس قروناً إلى الوراء، وبدأوا يستعرضون الذاكرة البشرية على ما فيها من قتم وغبش وإسفاف، لعل في متاهات الماضي ما يقيهم شر غوائل المستقبل، ولعل في خبايا القرون الخوالي كوة صغيرة ينفذ فيها اللاهثون العصريون إلى بَرّ الأمان.

لقد كانت أوروبا القرون التاسع عشر تدين بالعقلانية، والإطلاق بعقلانية لا تتردد في تفسير أي شيء، وإطلاق لا يستثني من قواعده الصارمة شيئاً، فلما صدمتها السنن الربانية الثابتة، وعصفت بها التحولات الخطيرة حتى أشرفت على الهاوية، عادت إلى مذاهب "اللامعقول" (١)، الذي يرفض أن يضبطه شيء، والنسبية التي تأبى كل أحكام العموم والإطلاق، حتى أن مذهباً إطلاقياً حتماً - كالشيوعية - تراجع من الحلم بالسيطرة على معظم العالم في الستينيات، يُصبح في نهاية الثمانينات رأسمالية حمراء.


(١) أو "اللاعقلي"، ومن مذاهبه: الروحية (برجسون)، والوجودية (سارتر)، والبعثية (ألبير كامو)، واتجاهات أخرى كالرمزية والسوريالية، وكثير من المدارس النفسية والاجتماعية.

<<  <  ج: ص:  >  >>