من المبادئ المستقرة لدى كل المسلمين: أن الله تعالى أكمل لهم الدين وأتم عليهم النعمة بحيث أنه لم يبق شيء يحتاجه المسلمون في الجانب التشريعي إلا وقد بُين لهم على أكمل وجه
فالشريعة الإسلامية كاملة في جميع جوانبها وتامة في سائر أنظمتها فالكمال ضارب فيما يتعلق بالعبادات من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها ومتحقق فيما يتعلق بالمعاملات من البيع والشراء وأنواع العقود وحاصل فيما يتعلق بالأنكحة والمواريث وسائر المعاملات الاجتماعية.
والمجال السياسي من المجالات التي شملها الكمال والتمام في الشريعة الإسلامية؛ إذ هو ليس مختلفا في طبيعته عن سائر المجالات الحياتية الأخرى.
ومن المستبعد عقلا أن يتعهد الإسلام بالتشريع والتوجيه في مجالات البيع والشراء والربا والرهن والإشهاد وأحكام النكاح والطلاق وأحكام الذبح ونحوها ثم لا يشرع في المجال السياسي ولا يقدم رؤية شرعية تنضبط بها علاقات الناس فيما بينهم وتُحفظ بها حقوقهم
والمراد بالكمال في الدين هو أن الإسلام وما تضمنه من نصوص ومبادئ كافٍ في هداية الأمة ووصولها إلى الرشد في عباداتها وعلاقتها بالله تعالى وفي معاملاتها وسياسيتها وأنظمتها في سائر عصورها ويشرح الطاهر عاشور معنى الكمال في الشريعة فيقول:"إكمال الدين هو إكمال البيان المراد لله تعالى الذي اقتضت الحكمة تنجيمه، فكان بعد نزول أحكام الاعتقاد التي لا يسع المسلمين جهلها، وبعد تفاصيل أحكام قواعد الإسلام التي آخرها الحج بالقول والفعل، وبعد بيان شرائع المعاملات وأصول النظام الإسلامي، كان بعد ذلك كله قد تم البيان المراد لله تعالى في قوله:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}[النحل:٨٩] وقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}[النحل:٤٤] بحيث صار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنة كافيا في هدي الأمة في عبادتها، ومعاملتها، وسياستها، في سائر عصورها، بحسب ما تدعو إليه حاجاتها، فقد كان الدين وافيا في كل وقت بما يحتاجه المسلمون"(التحرير والتنوير٤/ ١٠٣)
والمقتضى العقلي لثبوت الكمال في الدين هو أن الأمة إذا أعطت النصوص الشرعية حقها من النظر والبحث فإنها لن تحتاج إلى غيرها من الأمم في إقامة دينها ودنياها وستجد في المخزون الشرعي ما يحقق لها الكفاية في بناء النظم وحفظ الحقوق وضبط شؤون الحياة مما يتحقق بها الغنى التشريعي عن كل المنهاج والأنظمة المستوردة من الأمم الأخرى وها هو ابن القيم يشرح هذا المعنى فيقول:"وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها وهو مبنى على حرف واحد وهو عموم رسالته صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العباد في معارفهم وعلومهم وأعمالهم وأنه لم يحوج أمته إلى أحد بعده وإنما حاجتهم إلى من يبلغهم عنه ما جاء به فلرسالته عمومان محفوظان لا يتطرق إليهما تخصيص: عموم بالنسبة إلى المرسَل إليهم وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه من بعث إليه في أصول الدين وفروعه فرسالته كافية شافية عامة لا تحوج إلى سواها"(إعلام الموقعين ٤/ ٣٧٥)
وزيادة على ذلك فإنه لا يمكن لأمة من الأمم أن تصل إلى إحداث قوانين وأنظمة تشريعية تكون أفضل مما يمكن أن تُوصِلَ إليه نصوص الإسلام لو أعطيت حقها وهذه ضمانة شرعية بأن أمة الإسلام ستكون أعلى الأمم قدرا ... وأنضجها سلوكا ... وأحكمها نظاما وتشريعا ... وأعلاها سياسة وأن كل الأمم ستكون تابعة لها إن استثمرت المخزون الذي جاءت به الشريعة وهذا لا ينفي أن تتفوق بعض الأمم على أمة الإسلام إذا فرطت في استثمار المخزون الشرعي لديها.