[العلماء والإصلاح]
محمد الخضر حسين (ت:١٣٧٧هـ)
نُشر عام ١٣٤٩هـ الموافق ١٩٣٠م
نود من صميم قلوبنا أن تكون نهضتنا المدنية راسخة البناء، رائعة الطلاء، محمودة العاقبة. ولا يرسخ بناؤها، ويروع طلاؤها، وتحمد عاقبتها، إلا أن تكون موصولة بنظم الدين، مصبوغة بآدابه، والوسيلة إلى أن يجري فيها روح من الدين يجعلها رشيدة في وجهتها، بالغة غايتها: أن يزداد الذين درسوا علوم الشريعة عناية بالقيام على ما استحفظوا من هداية، فلا يذروا شيئاً يشعرون بأنه موكول إلى أمانتهم إلا أحسنوا أداءه.
ينظر أهل العلم في حال الناس من جهة ما يتقربون به إلى الخالق، ويزنون أعمالهم ليميزوا البدعة من السنة، ويرشدوهم إلى أن يعملوا صالحاً.
ومن الذي لا يدرك أن البدع تقف كقطع من الليل المظلم، فتغطي جانباً من محاسن الشريعة الغراء، وهي - بعد هذا - ضلالات تهوي بأصحابها في ندامة وخسران؟
ينظرون في أحوال الناس من جهة ما يدور بينهم من المزاعم الباطلة، والأحاديث المصنوعة، وينفون خبثها نفي النار لخبث الحديد، يفعلون هذا ليكون الناشئ المسلم نقي الفكر، صافي البصيرة، لا يحمل في نفسه إلا عقائد خالصة، وحقائق ناصعة.
ينظرون في أحوال الناس من جهة ما يجري بينهم من المعاملات، فيصلحون ما كان فاسداً، ويصلون ما كان متقطعاً، وما شاعت المعاملات التي نهي عنها الدين في غير هوادة؛ كالربا، والميسر، إلا حيث قل من يعظ الناس في ارتكابها، ويبسط القول في شؤم عاقبتها.
ينظرون في أحوال الناس من جهة ما يمسهم من السراء والضراء، ويسعون ما استطاعوا في كشف الضر عنهم، ولو بعرض حالهم على أولي الشأن، وإثارة دواعيهم إلى أن يعالجوا العسر حتى ينقلب بفضل تدبيرهم يسراً.
يحدثنا الكاتبون في تاريخ الأندلس: أن العلماء المقيمين في ضواحي قرطبة، كانوا يأتون يوم الجمعة للصلاة مع الخليفة، ويطالعونه بأحوال بلدهم، وقال أحد علمائهم:
وأتعبُ إن لم يُمْنَحِ الناسُ راحةً
وغيريَ إن لم يُتْعِبِ الناسَ يَتْعَبُ
ينظر أهل العلم بعين الاحتراس إلى كل من يدعو إلى مذهب باسم الدين، ويتخذون الوسائل إلى الاطلاع على حقيقة قصده.
ومن أسباب وهن حبل الإسلام، وتقطع أوصاله: مذاهب يبتدعها ملاحدة يمكرون، أو جهال لا يفقهون.
أفلم يكن المذهب البهائي يعمل لهدم قواعد الإسلام، واستهواء أبنائه من خلف ستار؟! وقد أحس بعض أتباعه اليوم بقوة، فصاروا يخطبون على منابر النوادي، ويجهرون بشيء من مزاعمه، وعرف بعض خصوم الإسلام قصدهم، فقاموا يشدون أزرهم، ويرددون الثناء على مذهبهم.
نحن نعلم أن في كل أمة فئة يفتحون صدورهم لقبول كل دعوة توافق أهواءهم، أو تأتيهم في طلاء يلائم أذواقهم، ولكن نهوض العلماء بعزم وحكمة، إن لم يسحق آراء هذه الفئة سحقاً، فإنه يكشف عما فيها من سوء، فلا يسكن إليها إلا من هم إلى الحيوان الأعجم أقرب منهم إلى الإنسان.
يرقب أهل العلم كل حركة تقوم بها جماعة من الأمة، فينقدونها بالنظر الخالص، ويصدعون فيها بآرائهم مدعومة بالأدلة المقنعة، ولا تعد هذه المراقبة وهذا النقد خارجين عن خطة العالم الإسلامي، بل هما واجبان في عنقه، كواجب التعليم والإفتاء.
وإذا قصَّ علينا التاريخ أن فريقاً من أهل العلم قضوا حياتهم في بحث المسائل العلمية البحتة، فقد قصَّ علينا أن أمة من عظمائهم كانوا ينظرون في الشؤون العامة، ويمثلون السيرة التي تكسو صاحبها جلالة، وترفع له بين الخلائق ذكراً.
كان أهل العلم يوجهون هممهم إلى الوسائل التي تقي الأمة ممن يبغونها الأذى، فهذا أبو بكر ابن العربي قاضي أشبيلية رأى ناحية من سور أشبيلية محتاجة إلى إصلاح، ولم يكن في الخزانة مال موفر يقوم بسدادها، ففرض على الناس جلود ضحاياهم، وكان ذلك في عيد الأضحى، فأحضروها، وصرفت أثمانها في إصلاح تلك الناحية المتهدمة.
وكان محمد بن عبد الله بن يحيى الليثي قاضي قرطبة كثيراً ما كان يخرج إلى الثغور، ويتصرف في إصلاح ما وهي منها، حتى مات في بعض الحصون المجاورة لطليطلة.
وظهور العلماء في أمثال هذه المواقف يغرس لهم في نفوس الأمة ودًّا واحتراماً، ويورثهم في رأي أولي الأمر مقاماً كريماً، أفلا نذكر أيام كان أمراء الإسلام يعرفون في طائفة من العلماء رجاحة الرأي، وصراحة العزم، وخلوص السريرة، فيلقون إليهم بقيادة الجيوش، فيكفون بأس أعدائهم الأشداء؟ وما كان أسد بن الفرات قائد الجيش الذي فتح صقلية إلا أحد الفقهاء الذين أخذوا عن مالك بالمدينة، ومحمد بن الحسن في بغداد، وعبد الرحمن بن القاسم في القاهرة.
ينظر أهل العلم إلى ما غرق فيه بعض شبابنا من التشبه بالمخالفين، وتقليدهم في عادات لا تغني من الرقي شيئاً، وقد يرى بعضهم انحطاط كثير من أبنائنا في هذا التشبه والتقليد، فيعده قضاء مبرماً، ويملكه خاطر اليأس، حتى ينتكث من التعرض للشؤون العامة ومعالجتها، ولكن الذي يعرف علة هذا التسرع، ويكون قد قرأ التاريخ ليعتبر، يرى الأمر أهون من أن يصل بالنفوس إلى التردد في نجاح الدعوة، بله اليأس من نجاحها.
وأذكر بهذا: أن كاتباً كتب في إحدى المجلات مقالاً تحت عنوان: (وحدة العالم) يدعو فيه إلى مسايرة أوربا في السفور ونحوه، وقال في علة الدعوة إلى هذه المسايرة: ليخرج الشرق والغرب في مدنية واحدة، وأشار على دعاة الإصلاح في الشرق بأن لا يقفوا في سبيل هذه المدنية، زاعماً أنهم لا يستطيعون مقاومتها، ولا يزيدون على أن يجعلوا سيرها بطيئاً، ورغب إليهم أن يحثوا الناس على المسارعة إلى قبولها.
والذين ينظرون إلى مدنية أوربا باعتبار، يبصرون فيها على البداهة ما لا يرتضيه العقل، ولا يقبله الشرع.
واختلاف الأمم بالحق خير من اتحادها على باطل، ولا يفوت الحكمة أن تجد نفوساً مهذبة، وعقولاً سليمة فتقبلها. فحقيق على العلماء أن يبتسموا لهذا الرأي تبسم الازدراء، ولا يقيموا لمثله وزناً إلا أن يكشفوا سريرته، ويعرضوا على الأنظار سوء مغبته.
والعالم بحق من يتدرَّع بالإيمان البالغ، والثقة بما وعد الله به الداعي إلى الحق من الظهور على أشياع الباطل، وإن أوتوا زخرفاً من القول، وسعة من المال، وكانوا أكثر قبيلاً.
لا ينبغي لأهل العلم أن يغفلوا عن سير أرباب المناصب والولايات، فمن واجبهم أن يكونوا على بينة من أمرهم، حتى إذا أبصروا عوجاً، نصحوا لهم بأن يستقيموا، أو رأوا حقًّا مهملاً، لفتوا إليه أنظارهم، وأعانوهم على إقامته.
أمر السلطان سليم بقتل مائة وخمسين رجلاً من حفاظ الخزائن، فبلغ هذا النبأ الأستاذ علاء الدين الجمالي، وكان متولياً أمر الفتوى، فذهب إلى السلطان وقال له: وظيفة أرباب الفتوى أن يحافظوا على آخرة السلطان، وهؤلاء الرجال لا يجوز قتلهم شرعاً، فعليك بالعفو عنهم. فغضب السلطان سليم، وقال له: إنك تتعرض لأمر السلطنة، وليس ذلك من وظيفتك، فقال الأستاذ علاء الدين: لا، بل أتعرض لأمر آخرتك، وإنه من وظيفتي، فإن عفوت، فلك النجاة، وإلا، فعليك عقاب عظيم، فانكسرت سورة غضب السلطان، وعفا عن الجميع.
ومتى كان في ولاة الأمور شيء من العدل، وكان في الداعي إلى الإصلاح حكمة وإخلاص، نجحت الدعوة في سعيها، وبلغت بتأييد الله مأربها.
يكون العالم رفيقاً في خطابه، ليناً في إرشاده، أما إذا أراده ذو قوة على أن يقول ما ليس بحق، أو يأتي ما ليس بمصلحة، أخذ بالتي هي أرضى للخالق، وكان مثالاً للاستقامة صالحاً.
أذكر أن أحمد بن طولون دعا القاضي بكار بن قتيبة إلى خلع الموفق من ولاية العهد، فأبى، فحبسه، وكرر عليه القول، فأصر على الإباءة، وبقي في السجن حتى ثقل ابن طولون في مرض الوفاة، فبعث إلى القاضي بكار يقول له: أردك إلى منزلتك، أو أحسن منها، فقال بكار للرسول: قل له: شيخ فان، والملتقى قريب، والقاضي الله عز وجل. فأبلغ الرسول ابن طولون ذلك، فأطرق ساعة ثم قال: شيخ فان، والملتقى قريب، والقاضي الله عز وجل. وأمر بنقله من السجن إلى دار اكتريت له.
وإنما يقوم العالم بإسداء النصيحة إلى ذي قوة، أو لا يوافقه فيما يخدش أمانته وتقواه، متى قدَّر مقامه العلمي قدره، وكان شأن العلم أسمى في نظره من كل شأن، وهذا الشعور هو الذي يهيئه - بعد داعية الغيرة - لأن يجاهد في سبيل الحق مستهيناً بكل ما يعترضه من أذى.
ومن أدب العلماء: أن ينصحوا للأمة فيما يقولون أو يفعلون، ويحتملوا ما ينالهم في سبيل النصيحة من مكروه، وكم من عالم قام في وجه الباطل، فأوذي فتجلد للأذى، وأجاب داعي التقوى متأسياً بقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون).
وممن جرى على هذا الخلق المتين: أبو بكر بن العربي يوم كان قاضياً بأشبيلية، قال في كتاب (القواصم والعواصم): حكمت بين الناس، فألزمتهم الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لم يك يرى في الأرض منكر، واشتد الخطب على أهل الغصب، وعظم على الفسقة الكرب، فتألبوا وألبوا، وثاروا علي، فاستسلمت لأمر الله، وأمرت كل من حولي ألا يدفعوا عن داري، وخرجت على السطوح بنفسي، فعاثوا عليَّ حتى أمسيت سليب الدار، ولولا ما سبق من حسن الأقدار، لكنت قتيل الدار، يعني بقتيل الدار: عثمان رضي الله عنه.
ولا يستحق لقب عالم أو مصلح ذلك الذي يدعو الناس إلى العمل الصالح، ويقبض عنه يده، أو ينهاهم عن العمل السيئ، ولا يصرف عنه وجهه، فمن أدب العلماء: أن يسابقوا الأمة إلى اجتناب ما يؤاخذ به، وعمل ما يحمد عليه؛ كأن ينفقوا في وجوه البر والمشروعات الصالحات ما ينفقه أمثالهم من المكثرين أو المقلين؛ فإن ذلك أدل على إخلاصهم، وأدعى إلى توقيرهم وقبول نصائحهم.
وإذا كان العدد القليل فيما سلف يكفي لحراسة الدين، وإرشاد من ينحرف عنه حتى يعود إليه، فلأن سلطان الإسلام يومئذ، وصوت غالب الجهل عليه خافت، أما اليوم، فالحال ما ترون وما تسمعون، فلا يمكن للدعوة أن تأتي بفائدتها إلا أن تضم المعاهد الإسلامية بين جدرانها طوائف كثيرة من أولي الغيرة والعزم، يصرفون جهدهم في الدفاع عن الدين، والدعوة إلى الخير، ويعيدون الدعوة مرة بعد أخرى.
وستنبت المعاهد الإسلامية - إن شاء الله - كثيراً من العلماء القوامين على نحو ما وصفناه، ولا سيما حين يأخذ التعليم بالأزهر الشريف نظامه الأسمى، ويجري مثل هذا النظام في غيره من المعاهد الإسلامية؛ كجامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين في فاس، ويقوى الأمل في أن تؤتي هذه المعاهد الثمرة الغزيرة الطيبة، متى نظر إليها أولو الأمر برعاية، وعاملوا النشء المتخرجين منها بما يدل على أنهم يحترمون الشريعة، ويقدرون ما تثبته في الأمة من رشد وإصلاح.
المصدر: كتاب (موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين، دار النوادر بسوريا، ط١، ١٤٣١هـ، (٥/ ١١٦)