للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تهافت الفراعنة]

عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف

٢٢ ربيع الأول ١٤٣٢هـ

«اللهم أنت أمتَّه فاقطع عنا سُنته، فإنه أتانا أخيفش أعيمش، يمدُّ بيد قصيرة البنان، والله ما عرق فيها عنان في سبيل الله، يرجّل جمته ويخطر في مشيته، ويصعد المنبر، فيهذر حتى تفوته الصلاة، لا من إله يتقي، ولا من الناس يستحي، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل الصلاة أيها الرجل، ثم قال الحسن: هيهات والله حال دون ذلك السيف والسوط» (١).

هكذا قال سيد التابعين الحسن البصري -رحمه الله- بعد أن سجد لله شكراً لما بلغه هلاك الحجاج بن يوسف (٢).

ومصارع الطغاة، وزوال سلطانهم، وتهاوى عروشهم من سنين الله تعالى وآياته التي توجب التفكر والاعتبار، وها أنت تعاين أنظمة وحكومات في غاية الجبروت والبطش والاستبداد، ثم يفجؤهم الخطب فإذا هي أنظمة هشّة تتساقط كأوراق الخريف .. فالأمر كله لله تعالى، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: ٢٦].

لكن هؤلاء الفراعنة والطغاة ما كان لهم أن يقارفوا طغيانهم واستبدادهم إلا بوجود جماهير تمنحهم الثقة المطلقة، والاستجابة العمياء، فالشعوب التافهة في كل زمان ومكان هي التي تصنع المستبدين، وتغريهم بالطغيان (٣).

وأما الشعوب التي تربى أبناؤها على الشجاعة والإقدام، فما كان لهم أن يرضوا بالهوان، أو يستكينوا للطغيان، ولسان حالهم يقول:

ولا يقيم على خسف يُراد به ... إلا الأذلّان عيرُ الحيّ والوتدُ

هذا على الخسف معقول برمُته ... وذا يشجُ فلا يبكي له أحد

وفي أحداث تونس ومصر أروع الأمثلة في دور الشعوب عموماً والشباب خصوصاً في مدافعة الفساد ومحاربة الطغيان.

يقول الأستاذ محمد الغزالي - رحمه الله -: «وقد راقبنا الثورات التي اشتعلت في أرجاء الشرق ضد الغزاة المغيرين على بلاد الإسلام، فوجدنا جماهير الشباب هم الذين صلوا حرها، وحملوا عبئها، واندفعوا بحماستهم الملتهبة وإقدامهم الرائع يخطّون مصارع الأعداء، ويرسمون لأمتهم صور التضحية والفداء.

ولا يزال الشباب من طلاب وعمال وقود الحركات الحرة، وطليعة الثائرين على الفساد والاستبداد، وقبلة المربين والمرشدين (٤).

بل إن عامة هؤلاء الشباب - في تونس ومصر - لا يجمعهم حزب منظّم ولا فكر «مؤدلج» فكان خلوهم من ذلك من أسباب إقدامهم وعفوية موقفهم وصدق مدافعتهم .. وقد أدرك العباسيون هذه الحقيقة أثناء القيام بدولتهم، فبعثوا دعاتهم إلى خراسان حيث القلوب الفارغة والصدور السليمة.

فقد حكى ابن الجوزي في حوادث سنة مائة أن محمد بن علي العباسي كان يقول لدعاة الدولة العباسية: «أما الكوفة فهناك شيعة علي وولده، وأما البصرة فعثمانية ترى الكفّ، تقول كن عبد الله المقتول ولا تكن القاتل، وأما الجزيرة فحرورية، وأما الرقة فمسلمون أحلاف النصارى، وأما أهل الشام فلا يعرفون إلا طاعة بني مروان، وأما أهل مكة والمدينة فقد غلب عليها أبو بكر وعمر.

ولكن عليكم بخراسان فإن هناك الصدور السليمة والقلوب الفارغة التي لم تتقسمها الأهواء ولم تتوزعها النحل» (٥).


(١) أحكام القرآن للجصاص (٣/ ٤٠٤).
(٢) انظر: كتاب المتوارين الذين اختفوا خوفاً من الحجاج لعبد الغني الأزدي (ت ٤٠٩هـ) (ص ٤٦).
(٣) انظر: من معالم الحق لمحمد الغزالي (ص ٢٣٩).
(٤) في موكب الدعوة (ص ٤٩).
(٥) المنتظم (٧/ ٥٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>