[التوازن الفكري]
د. محمد بن إبراهيم السعيدي
٣ جمادى الأولى ١٤٣١هـ
١ من ٦
مفهوم التوازن الفكري
حين شَرعْتُ في كتابة هذه المجموعة من المقالات كان تعريف التوازن عقبة تحول دون البدء في الكتابة, فالمصطلح جديد فيما يبدو لي في تراثنا الثقافي, والذين استخدموه مضافًا إلى الفكر لم يقصدوا به معنًى واحدًا, فمنهم مَن يستخدمه كوصف إيجابي لعملية التفكير التي تؤدي إلى نتائج صحيحة, فهو عنده مرادف تقريبًا لاستعمال المنطق في التفكير، وذلك عن طريق البحث عن مقدمات صحيحة للوصول إلى نتائج صحيحة, ومنهم مَن يريد بهذا المصطلح المعطيات العلمية التي تُبنَى عليها الأفكار الصحيحة, ومنهم من يريد به الفكر المتوسط بين طرفي النقيض أو بين الإفراط والتفريط، فهو عند هؤلاء مرادف للوسطية, ومنهم من يعني بالتوازن الفكري: الفكر الذي هو عليه فأفكاره متوازنة وأفكار غيره مختلة, وهؤلاء طائفة غير قليلة ليس في فكرنا العربي المعاصر وحسب، بل في الفكر والرأي العام العالميَّيْن.
أما ما أعنيه هنا أي في هذه المقالات بالتوازن, وأرجو أن أوفق في الكتابة عنه فهو الابتناء على المعطيات الصحيحة في نظري لتكوين الأفكار, والاتزان لا يعني صواب الفكرة, بل صواب طريقة التفكير؛ فإن من مفارقات الفكر: أن سلوك طريق واحدة فيه لا يؤدي بالضرورة إلى نتيجة واحدة, وقبل الاستغراق في هذا المعنى يحسن أن أبدأ في ذكر مفهومي للفكر، فإننا حين نستعرض كشافات الاصطلاحات العلمية القديمة نجد الناس بين عالِم ومتعلِّم وجاهل, وربما وجد في بعض الأوساط مصطلح المتكلم والفيلسوف, وفي العصر الحديث وُجِد مصطلحان ليس لهما وجود -حسب علمي- في تراثنا القديم، وهما الثقافة والفكر، ويأتي منهما: المثقف والمفكر, ويحار الناس كثيرًا في تحديد معناهما، ومن ثَم يحارون في مواضع إطلاقهما.
وحديثنا عن الفكر خاصة, فالذي يظهر لي أن أكثر مَن يتعاطى هذا المصطلح في ثقافتنا العربية المعاصرة يريدون به "التصور الإجمالي والتفصيلي لواقع ما من حيث كنهه وعوامل تكوينه ومآلاته وطرق تحسينه وعلاج آفاته".
وتقييد التصور بالإجمالي والتفصيلي ليشمل الإدراك بنوعَيْه عند المناطقة الذين يقسمون الإدراك إلى تصور وهو الإدراك المتجرد عن الحكم, وتصديق وهو الإدراك المتضمن للحكم.
والواقع يشمل الواقع الديني والسياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي لمجتمع ما, فكلُّ تصوُّر لهذا الواقع في أي جزئية من جزئياته يعدُّ فكرًا, ولهذا يمكن القول: إن الفكر بهذا المفهوم مشاع بين الناس فكل إنسان لديه تصور لما يحيط به مما ذكرنا, لكن الناس يختلفون في مكانة تصوراتهم باختلاف درجاتهم من حيث حصولهم على المعلومة ونوعية تعلمهم وبصيرتهم, إلى غير ذلك من الفروق الفردية بينهم.
وهذا الفهم لمعنى الفكر يتوافق إلى حدٍّ كبير ومفهوم علماء النفس الاجتماعي للرأي العام, وعليه يمكن القول إن الفكر يساوي في كثير من مظاهِرِه ما يسميه علماء النفس الاجتماعي وخبراء الإعلام بالرأي العام, وإن كان ثمة فرق بين الأمرين فهو أن الرأي العام قد يتضمن قضية تفرض على المجتمع إعلاميًّا أو سياسيًّا، وليست في الحقيقة من صميم اهتماماته، وربما لا تكون ضمن الأمور المؤثرة في حياته العادية, لكن وسائل الإعلام قد يكون لها مصلحة في فرضها على المجتمع, وهذا ما يحاول قادة الفكر دائمًا النأي بالمجتمع عنه، وذلك كي لا تكون انفعالات الأمة خادمة لأصحاب المصالح الخاصة.