اقتلني ومالكًا
د. أحمد بن صالح الزهراني
٢٥جمادى الأولى١٤٣١هـ
قبل أيّام دعاني صديق إلى مجلس فيه أحد المشايخ الفضلاء زار مدينتنا الصغيرة مؤخراً، سعدت بهذه الدّعوة، وذهبت مع الصديق العزيز، وقد كانت فرصة للشيخ الكريم أن يمسك بطرف الحديث متحدثاً عن قيمة العدل والإنصاف في المنهج السّلفي.
العدل والإنصاف مع من يخالفنا سواء من كان خارج سياج أهل السنة أم داخلها.
قيمة العدل والإنصاف هي الميزان الّذي يضبط أصلاً سلفياً كبيراً، ألا وهو أصل الرد على المخالف، فـ (الرد على المخالف والموقف منه) شريعة إسلامية، وأصل إسلامي كبير تأتي أهميته تابعة لأهمية الدين والمنهج؛ فالردّ على المخالف هو الحصن الذي حمت به الشريعة الدين من تأثير أصحابه عليه، أعني من أخطاء حامليه في تصوّره أو تصويره أو تطبيقه.
إذ إنّ تقديس الأشخاص والإعجاب بهم والثقة في أحلامهم قد يجنح بالكثيرين إلى تقليدهم فيما زلّت به أقدامهم، وقد يعظم على البعض الردّ عليهم أو نقدهم وبيان أخطائهم، ولهذا كان السلف يردّون على بعضهم ويخطئون بعضهم، فضلاً عن غيرهم ممّن فارق منهج السلف.
لكنّ هذه الشعيرة كسائر الشعائر لها أصولها وضوابطها الّتي يأتي العدل والإنصاف في مقدمتها.
ومن أصولها كذلك خاصية التوازن في التطبيق، أعني القدرة على إعطاء كل مخالفة وكلّ مخالف وكلّ حالة وزنها الحقيقي دون مغالاة ولا إجحاف، وإلاّ ظللنا نتصادم بين الغلوّ والإجحاف حتى تضيع الشعيرة في خضم عراك المتعاركين.
وقد أثار ذلك المجلس وما دار فيه عندي الرغبة في التذكير بأمرين:
الأوّل: «تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج! وأنه من الخير للأمة المسلمة أن تبقى مبادئ منهجها سليمة ناصعة قاطعة، وأن يوصف المخطئون والمنحرفون عنها بالوصف الذي يستحقونه - أياً كانوا - وألا تُبَرّر أخطاؤهم وانحرافاتهم أبداً بتحريف المنهج وتبديل قيمه وموازينه. فهذا التحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات المسلمة بالخطأ أو الانحراف؛ فالمنهج أكبر وأبقى من الأشخاص» أ. هـ.
قال هذا الكلام سيّد قطب رحمه الله: يا للجَمال!!
نعم: «المنهج أكبر وأبقى من الأشخاص»، هذا الكلام الجميل يتغنّى به الكثيرون حين يكون (الأشخاص) هم الآخرون، لكنهم يتنكّرون له، ويضربون به عرض الحائط إذا جاء التطبيق إليهم.
فكل المناهج غاليها ومتساهلها سلفيّها وخلفيّها تأخذ مداها، وتتأرجح بين التطبيق المتشدد، إلى التساهل حين يكون موضوعها ومحمولها هو الآخر، أمّا حين تقترب الشفرة إلى الذات فحينئذ تنتفض الذات، وتهتزّ النفس الحرون لتقرر بطلان أيّ منهج تخسر بتطبيقه بعض بريقها وزخمها الّذي تكتسب به جماهيريّتها ..
إنّها الذات .. حين تصبح محور اجتهادات الفقيه، ودعوة الداعي، وجهاد المقاتل، وسياسة السياسي ..
ولذا نلاحظ هذه الأيّام موجة من النكوص والعودة إلى التفتيش في قضايا المنهج لا من أجل تثبيتها والإشادة بها بل لنقضها وبيان خللها ..
متى حدث هذا ومتى يحدث؟
يحدث كلّما تبيّن أنّ المنهج يقترب من حدود الذات ويلامس حماها ..
قديما كان البعض يتترّس بمنهج توقير العلماء وحماية جنابهم ..
وحين وجد أنّ العلماء عارضوه، وتكلّموا فيه إذا نفسه تصيح بين جنباتها أنّ تقديس العلماء ليس من أصول الإسلام ..
كثيرون يتكلمون عن حاكمية الشريعة، ويكادون يسطون بمن يخالفهم في جزئيات من المسألة ..
لكن حين يُراد تطبيق الشريعة عليهم سيكون في المسألة نظر!
وبعضهم يترفع أصلاً عن أن يُحاكم إليها!
كثيرون ينادون بإشاعة روح النقد والرد على المخالف في جوّ من الألفة والمودّة، لكن حين يكون النقد موجهاً لهم سيصبح كلّ من نقدهم عدواً لهم.