الإشكالية الرابعة: المراوحة في خانة الاحتجاج، وهذه الإشكالية هي نتيجة ضرورية للإشكالية السابقة، فالمتابع لأطروحات الخطاب الإصلاحي يجد أنها طرقت أبواباً كبيرة، وطالبت بتغطية صحارى واسعة، ولكننا نُفاجأ بأنه لم يقدم لنا مشروعات متكاملة في تصوراتها وآلياتها وتطبيقاتها وتفصيلاتها، تتناسب مع حجم الأصوات المرتفعة التي أحدثها، ولا مع قدر الذم الذي وجّهه إلى المخالفين له.
فلم نشهد دراسات نهضوية وحضارية وسياسية تؤصل للمشروع الإسلامي الذي يدعون إليه، ولم نشهد ممارسات عملية في الواقع تتناسب مع حجم ما أحدثوه من ضجيج.
وهو يعيب كثيراً على الخطاب المختص بالأمور الفقهية والعقدية بأنه لم يقدم دراسات تغطي احتياجاتنا، وإذا نظرنا في واقع الخطاب الإصلاحي نجده يعاني مما نقد به الآخرين، فلو ألقينا نظرة على أهم القضايا المتعلقة بالحضارة والنهضة التي أعلن التخصص فيها، والتي نحتاج فيها إلى دراسات واسعة تسعى مع الدراسات السابقة في العالم الإسلامي إلى تغطية الحاجة الملحة في بناء مشروعنا الإسلامي، ومن تلك القضايا: مفهوم الحضارة في الإسلام ومبادئها، والأسس والأصول التي تقوم عليها الفكرة الحضارية في الإسلام، ومكونات الفكرة الحضارية في الإسلام وحدودها، وطبيعة الفكرة الحضارية ومدى ارتباطها بخصوصيات الأديان، والدراسات التاريخية للحضارة وتطوراتها في الإسلام وتشكلاتها عبر التاريخ، والمفاهيم الحضارية الأخرى ومدى تطابقها مع مبادئ الإسلام، وغيرها من قضايا الحضارة والنهضة التي لا يمكن أن نكوّن رؤية ناضجة لمشروعنا الحضاري والنهضوي إلاّ بتناولناها بالدارسة والتأصيل، إذا نظرنا في ذلك كله فلا نجد الخطاب الإصلاحي قدم فيها ما يكفي، ولا ما يقارب قدر الكفاية.
وكذلك لو ألقينا نظرة على الإشكاليات المعرفية والشرعية والواقعية المتعلقة بالجانب السياسي فلا يختلف عن الحال في الجانب الحضاري.
ونحن هنا لا نريد أن نقول بأنهم لم يقدموا شيئاً أبداً؛ لأنا إذا قلنا ذلك وقعنا في الظلم الذي حرمه الله على عباده، ولكن المقصود أن ما قُدّم لا يقارب فضلاً عن أن يساوي الضجيج الاحتجاجي الذي صنعوه في ساحتنا الفكرية، ولا يرفع عنهم اللوم الذي يوجّهونه إلى غيرهم.
وإذا كان الحال كذلك فإنه يجب علينا أن نتفهم جوانب الخلل التي اشتركت كل الأطياف الإسلامية فيها، وألاّ يشغب بعضنا على بعض بأنه هو السالم من النقص دون غيره، ولا داعي للضجيج الاحتجاجي الذي نلمسه من بعض الخطاب الإصلاحي على الخطاب السلفي، وكأن الخطاب السلفي هو الذي تسبب في وقوع النقص، أو أنه هو الذي يعادي كل تطور وتقدم!! وهذا لا يعني أنا نبرّئ كل المتبنين للخطاب السلفي من الخطأ، ولكن وجود الخطأ من بعضهم لا يسوّغ التجني على كل الخطاب.
وهذا كله يحتم علينا أن يسعى كلٌّ من جهته في تغطية ما تخصص فيه على أكمل وجه وأبين طريق، حتى نحقق الروح الإسلامية التي يسعى الكل للوصول إليها.
الإشكالية الخامسة: التعالي على النقد؛ فالقارئ يلحظ بوضوح التعالي لدى بعض الخطاب الإصلاحي على ما وُجّه إليه من نقد وتساؤلات، فكم كُتب من مقال في نقد منظومته، وكم كُتب في بيان الأخطاء العملية في نظرياته، وكم كُتب في بيان الموقف من طريقة سيره، ومع هذا لم نشهد كتابات علمية رصينة تبين للناس حقيقة منطلقاتهم وتدفع ما وُجّه من نقود إليهم، إلاّ ما نجده من ردود متفرقة ومبعثرة، وفي تصوّري أن هذا الحال لا يخدم فكرهم، بل لا يزيده إلاّ التباساً.
ونحن نعلم أن المختصين بالخطاب الإصلاحي ليسوا سواءً؛ فهو يتسم بتنوعات كبيرة وتباينات واسعة، وهذا التنوّع يحتم على الصنف الناضج أن يحاول جمع كل من وجه إلى خطابهم من انتقادات وملاحظات، ويبين فيها موقفه بوضوح، سواء في الموقف من التاريخ الإسلامي، أو في الموقف من المخالفين، أو في بعض الآراء والأفكار نفسها.
هذه هي أبرز الإشكاليات المنهجية - في تصوري- التي يعاني منها خطاب الإصلاح، وهي حاضرة فيه بوضوح، وبقاؤها فيه لا يخدم المشروع الإصلاحي الذي نروم الوصول إليه، ولا يخدم المشروع الإسلامي بجملته؛ لأنها ستؤدي إلى إفرازات مضرة بفكرنا.