للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[سنة الله فيمن لا يقدر المسلمون على الانتقام منه كمن سب الرسول أو آذاه]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

((ومن سنة الله أن من لم يمكن المؤمنون أن يعذبوه من الذين يؤذون الله ورسوله؛ فإن الله سبحانه ينتقم منه لرسوله ويكفيه إياه ... والقصة في إهلاك الله واحداً واحداً من هؤلاء المستهزئين معروفة، قد ذكرها أهل السير والتفسير، وهم على ما قيل نفر من رؤوس قريش: منهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسودان بن المطلب وابن عبد يغوث، والحارث بن قيس.

وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وكلاهما لم يُسْلم، لكن قيصر أكرم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكرم رسوله، فَثَبَتَ ملكه، فيقال: إن الملك باقٍ في ذريته إلى اليوم (١)، وكسرى مَزَّقَ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتله الله بعد قليل، ومزق ملكه كل ممزق، ولم يبق للأكاسرة ملك، وهذا ـ والله أعلم ـ

ومن الكلام السائر: "لحوم العلماء مسمومة" فكيف بلحوم الأنبياء عليهم السلام.

وفي "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فقد بَارَزَنِي بِالمُحَارَبَةِ".

فكيف بمن عادى الأنبياء؟ ومن حارب الله حُرِبَ، وإذا استقريت قصص الأنبياء المذكورة في القرآن تجد أممهم إنما أهلكوا حين آذوا الأنبياء وقابلوهم بقبيح القول أو العمل، وهكذا بنو إسرائيل إنما ضربت عليهم الذلة، وباؤوا بغضب من الله، ولم يكن لهم نصير لقتلهم الأنبياء بغير حق مضموماً إلى كفرهم، كما ذكر الله ذلك في كتابه، ولعلك لا تجد أحداً آذى نبياً من الأنبياء ثم لم يتب إلا ولابد أن يصيبه الله بقارعةٍ، وقد ذكرنا ما جرَّبه المسلمون من تعجيل الانتقام من الكفار إذا تعرضوا لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغنا مثل ذلك في وقائع متعددة، وهذا باب واسع لا يحاط به، ولم نقصد قصده هنا، وإنما قصدنا بيان الحكم الشرعي.

ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه حتى إذا تعرض أهله لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقيعة في عِرْضِه، تعجلنا فتحه وتيسر ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك، ثم يُفتح المكان عَنْوَة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوه فيه.

وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل المغرب حالهم مع النصارى كذلك، ومن سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده، وتارة بأيدي عباده المؤمنين

وكان سبحانه يَحْميه ويَصْرف عنه أذى الناس وشتمهم بكل طريق، حتى في اللفظ؛ ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ تَرَونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ، يَشْتُمُونَ مُذَمَّماً وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّماً، وَأَنَا مُحَمَّدٌ"، فنزه الله اسمه ونعته عن الأذى، وصرف ذلك إلى من هو مذمم، وإن كان المؤذي إنما قصد عينه.

ومما يدل على أن السب جناية زائدة على كونه كفراً وحراباً ـ وإن كان متضمناً لذلك ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يعفو عمن يؤذيه من المنافقين كما تقدم بيانه، وقد كان له أن يقتلهم كما تقدم ذكره في حديث أبي بكر وغيره، ولو كان السب مجرد رِدَّةً لوجب قتله كالمرتد يجب قتله، فعلم أنه قد يغلَّب في السب حق النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يجوز له العفو عنه.

ومما يدل على أن السب جناية مفردة أن الذمي لو سب واحداً من المسلمين أو المعاهدين ونقض العهد لكان سب ذلك الرجل جناية عليه يستحق بها من العقوبة مالا يستحقه بمجرد نقض العهد؛ فيكون سب رسول الله صلى الله عليه وسلم دون سب واحد من البشر؟!

وقال رحمه الله:

إن تطهير الأرض من إظهار سب رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب حسب الإمكان؛ لأنه من تمام ظهور دين الله وعلو كلمة الله وكون الدين كله لله، فحيث ما ظهر سبه ولم ينتقم ممن فعل ذلك لم يكن الدين ظاهراً ولا كلمة الله عالية، وهذا كما يجب تطهيرها من الزناة والسُّرَّاق وقُطَّاع الطريق بحسب الإمكان، بخلاف تطهيرها من أصل الكفر فإنه ليس بواجب، لجواز إقرار أهل الكتابين على دينهم بالذمة لأن إقرارهم بالذمة ملتزمين جَرَيان حكم الله ورسوله عليهم لا ينافي إظهار الدين وعلو الكلمة، وإنما تجوز مهادنة الكافر وأمانه عند العجز أو المصلحة المرجوة في ذلك، وكل جناية وجب تطهير الأرض منها بحسب القدرة يتعين عقوبة فاعلها العقوبة المحدودة في الشرع إذا لم يكن لها مستحق معين، فوجب أن يتعين قتل هذا؛ لأنه ليس لهذه الجناية مستحق معين، لأنه تعلق بها حق الله ورسوله وجميع المؤمنين، وبهذا يظهر الفرق بين الساب وبين الكافر، لجواز إقرار ذلك على كفره مستخفياً به ملتزماً حكم الله ورسوله، بخلاف المظهر للسب.))


(١) هذا في زمنه رحمه الله وإن استهزاء أحفاد قيصر برسول الله صلى الله عليه وسلم في أيامنا هذه بشارة بزوال ملكهم وحكمهم بإذن الله.
المصدر: (الصارم المسلول) (١/ ٨٤) (١/ ١١٣) (١/ ١١٤) (١/ ٢٠١) بتصرف يسير.

<<  <  ج: ص:  >  >>