لا تمرّ ساعة دون أن يدخل (محمد) إلى أحد المواقع الالكترونية ليناقش عدداً من أصحاب الطوائف والتوجهات المختلفة في مسائل وقضايا كثيرة، ثمّ بعد أشهرٍ من الجدل والحوار المستمرّ يظهر (محمد) برؤى وأفكار منحرفة يظنّها ضرورية وأساسيّة للدفاع عن أحكام الشريعة وتصحيح صورة الإسلام والسنة.
ولقد أصاب أخونا (عبد الرحمن) قريباً مما أصاب (محمد) غير أنّه كان أقلّ انهماكاً في هذه المعمعة فكان دوره يقتصر على المتابعة والقراءة مع بعض الحوارات الهامشية، فما دارت الأيام حتى كان قلب (عبد الرحمن) يحتضن كثيراً من الإشكاليات والشبهات التي كانت تمرّ على عينيه الساخطتين فما لبثت أن سكنت قلبه بعد ذلك.
(عبد الرحمن) و (محمد) نموذجان لظاهرتين منتشرتين في واقعنا المعاصر، ظاهرة الشخص الغيور الذي يدخل في نقاش الشبهات دفعاً لها وتحذيراً منها وظاهرة القارئ المطّلع على هذه الحوارات فضولاً وثقافة ثم ما يلبثا بعد هذا إلا قليلاً حتى ينقلب بعضهم على عقبيه أو يكون قد تأثّر - كثيراً- وتشرّب عدداً من الأصول والمقدمات الفاسدة.
سأقف مع سبب واحد يفسّر واقع هذه المشكلة، وسأدع بقية الأسباب المؤثّرة لمقام آخر، فلن أتحدّث عن ضعف جانب العبادة والاتصال بالله، أو عن إشكالية تهاون المسلم في تحريك دفعات الشبهات على قلبه من دون أن يشدّ حبل قلبه بالله، ولا عن سبب العجب والثقة والاتكال على النفس الذي يضعف افتقار العبد إلى مولاه، ولا عن ضعف التأصيل الشرعي، ولا عن التفرّد والاستقلال الموهوم الذي يجعل أمثال هؤلاء يأنفون عن سؤال أهل العلم والرجوع إليهم، بل لربّما ظنّ- لعظم الوهم الذي يسكنه- أنه يخوض غماراً لا ينقذ الإسلام ولا يحفظ أصول الدين إلا رأيه وفكره.
السبب الذي أريده يتعلّق بواقعة (التسليم بالمقدمات والأصول الفاسدة) فيدخل المحاور والقارئ لهذه الحوارات، وفي غمارمعمعة قضاياها وأمواج إشكالاتها يتخذ لنفسه عدداً من الأصول والقضايا الثابتة يدافع عنها ويجيب عن الشبهات بناءً عليها، وقد غفل عن أن هذه الأصول والقضايا لم تأته من قراءة تدبّرية لكتاب الله ولا من جلوس طويل على صحيح السنة ولا من دراسة بحثية لكتب الفقه وإنما جزم بها من خلال هذه الحوارات وحسم أمرها بعد إلزام من هنا أو ورطة هناك.
هي مشكلة قديمة، كثيراً ما يبتلى بها من يقرر أصوله ومحكماته من خلال هذه الحوارات، وقد كانت سبباً ظاهراً لبذور الانحراف العقدي الذي مزّق أمة محمد صلى الله عليه وسلم من قديم، فرأس المنحرفين (الجهم بن صفوان) لم يقرر عقيدته في نفي أسماء الله وصفاته إلا بعد نقاشٍ مع فرقة وثنية أحرجته بأنه لا يستطيع أن يحسّ خالقه ولا يشمه ولا يسمع صوته فهو إذنغير موجود، فحيّرته هذه الشبهة ومكث أياماً يبحث عن جواب مريحٍ لها، ثم خرج إليهم فأجابهم بأن وجود الله مثل وجود الروح التي في جسد الإنسان، يقرّ الإنسان بوجودها لكنّه لا يراها ولا يسمع صوتها، ومن خلال هذا الدليل الذي قرّره ليتخلّص من ورطته مع الوثنيين بنى تصوّره عن الله فنفى عنه الصفات التي أخبرنا بها عن نفسه. (انظر: الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد بن حنبل ٩٣)
وقد بذلت الفرق الكلامية جهداً عظيماً في سبيل إقناع الملاحدة بوجود الله فجاؤوا بالدليل العقلي الشهير (دليل حدوث الأعراض والأجسام) وجعلوا إثبات الله لا يقوم إلا به، فحطموا وعبثوا بسببه بكثير من النصوص والأصول الشرعية.