البُقْعَة صارتْ تَتَّسِعُ شيئا فشيئا لكلِّ من له خصومة أو موقف مع التيار السائد، ليست المسألةُ أن تنطلق وفقَ قواعدَ محددة ومنهج متبلورٍ وأدوارٍ واضحة؛ المهم أن يكون لك تحفظ على شيءٍ قائم على السَّطح، بعدها ستُمنح بطاقة الشرف وتذكرة الدخول لعالم الأنوار في جَذْر مكافحةِ الظُّلم ومقاومة الاستبداد؛ إنها البقعة التي رسمها أحدهم وأدخلَ في قُطْرِها كوادرَ علمية ذات اليمين وذات الشمال، وحشر في جوفها أقلاما متباينة بشكل حاد ومشاريع شتى...؛ كانت أَشْبَه بصافرةِ إنذارٍ دَوَّتْ في بعضِ دولِ العالمِ الثالثِ فإذا بالطبيب والمهندس والمزارع بجوارِ الجندي جنبا إلى جنب في أرض المعركة .. !
كانت أمانيَ أملاها الخيال الرحب والنفس المتطلعة نحو التغيير .. لكن هل لها رصيد من الواقع؟
شَغَلونا بالحديثِ عن الإصلاحِ السياسي ومناهضةِ الفساد المالي، فلما قلنا لهم: سَمُّوا لنا رجالَكَم .. ، ذكروا فلانا وفلانا من الأفاضِل .. أسماءٌ لا يُعتبرُ الإصلاحُ السياسي من صَلْبِ اهتماماتها، يا تُرى هل هو تَخَلٍ عن المشروع؟ أم أن المسألةَ لا تعدو أن تكونَ استكثارا للرِّفاقِ لمجابِهَةِ التيارِ الجارِف؛ رأوا أيديَهم خاليةً من الأوراقِ الرَّابِحة، فأدخلوها في جيوبِ الآخرين يبحثون عن أيِّ رهانٍ يضعهم في الواجِهة؛ كنت أتمنى أن يكون الخطاب التنويري واضحَ المعالم والرسوم، لكنه ويا لأسفي الشديد ليس كذلك، كل ما هُنالِك أن تُبديَ تحفظاتٍ شديدةٍ وليونةً في التعامل مع النَصِّ الشرعي في أي مجال شِئت، بعدها ستجد نفسك عضوا في نادي الأنوار .. ! لا أعلم لمَ وُضِعَتْ السِّياجاتِ الوَهْميَّة بين التيارات الإسلامية، يا تُرى هل صارَ مُبرر إثبات الوجود والتجميع المرقَّع أهمَّ من مبرِّرِ وحدةِ الكلمة والصف؟!
الغلو في مكافحة الغلو:
يسأل التنويريون: لم لا تكافحون الغلوَّ والتشدد؟
هل ثمَّ موضوعٌ تناوله الخطابُ الشرعي خلال العقدِ الماضي أكثرَ مما تناول شبهات الجهاديين ومسائل التكفير حتى بات وصف:[الغلو في مكافحة الغلو] ملائما لبعضِ حالات الخطاب .. !
ما لم يفهمه هؤلاء -تطبيقيا على الأقل- أن الشريعة نبذتْ الغلوَّ والتفلُّتَ على حدٍ سواء، فالمكتبات السلفية والمحافل المحلية والرسائل العلمية والندوات المختلفة كلها تصب في صالح مكافحة الغلو، لكن السؤال الملقى في قارعة الطريق، من يقف في وجه مطبوعات محسوبة على التنوير تخلخل الثوابت الشرعية ككتاب يتضمن قصر الصلوات الخمس إلى ثلاث، ومن ينتزع المناديل المبللة من أكف نادبي أساطين الانحراف ويصرخ في أحداقهم المحمرَّة: لملموا عواطفكم المتناثرة بحزام الدين، فهؤلاء خصوم الشريعة من المهد إلى اللحد كيف يُندبون؟!
هي الأعينُ نفسُها جمدتْ عن السيلان إثرَ وفاةِ العُلَمَاءِ الربانيين .. ؟
ثمَّ يسألون بكل براءة: من يقف في وجه الغلو؟
يقفُ في وجهِ الغلوِّ القادرون على تمييزه، وهنا -ربما- مَوضِع الإشكال، فليس من القادرين على تمييزه من يفاخرون بالأخذ بسند عالٍ عن رموز القراءة الجديدة للنص، أحدهم أراد الوقوف في وجهِ الغلو، فاستدرك على أحد العلماء ثم انتهى إلى القول أن شتم النبي صلى الله عليه وسلم مما تتسع له الحرية في حياته واستدل بآيات منها (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذُن) .. !