هل مجردُ كثرةِ الحديثِ عن الغلوِّ مفخرةٌ بحدِّ ذاته، إذن فاز بهذه المنقبة لفيفٌ من الصحفيين الليبراليين الذين وضعوا الكلمات التالية:[الغلو، التطرف، آيدلوجيا] فَوَاصِلَ بين الجَمَلِ، وهم أكثر الناس شتما وتقريعا لما يرونه غلوا، لأنهم يكتسبون شرعية بقائهم من وجوده على الساحة، يؤمل بعض هؤلاء أن تصير كتاباتهم التبريرية أقراصا منومة وحقن بنج تضخ في الشرايين حتى تبتر الأعضاء في المشرحة التنويرية دون مقاومة؛ فقط سنُبَدِّلُ نظامَ حكمك، ونتيح المجال لأهل الابتداع وأقطاب الانحراف أن يسيحوا في أرضك، ونعيد ترتيب أولويات الإصلاح لا كما رسمها القرآن بل وفق إيقاع العصر ومتطلباته، لن نفعل غير هذا، فلم الغضب والممانعة؟
نحن وإياك خطان متوازيان؛ أنت تلاحق المنكرات اليومية: البِدَع، والاختلاط، والغناء، والجزئيات الصغيرة .. ، ونحن نوطن كل هذه الأشياء بقرار حكومي .. فأي داع للغضب؟!
خصومة مفتعلة:
عبثا يحاول التنويريون أن يُظهِروا عدم قدرة الخطاب الشرعي على معالجة مشكلات العصر الجديدة، ودأبوا على وصم رجالات الخطاب القائم بالتعلق في ركب السلطة والولاء التام للحاكم وهذه هي أس المعادلة وحرف المسألة، فلتكون متسقا مع ذاتك، صاحب أطروحات مُقْنعة لغيرك؛ تحدث بإسهاب عن نقائص الآخرين، لا بقصد معالجتها بل لإسقاطها، وإلا فما الداعي لظهور خطاب جديد، وأوضِّحُ الصورةَ في مثال واقعي: النُّشَطاء السياسيون الذين دأبوا على نقد السلطة لم يمسَّهم النقدُ الجذري إلا بعد ولوجِهِم مغاراتٍ مظلمةٍ من إسقاطِ الحديثِ المتواترِ إذا كان متضمنا طاعةَ السلطان، والسخريةِ بفقه السلف، ونبز المعاصرين من علماء الشريعة بأحطِّ الأوصاف، ولو أنهم وقفوا على حدود نقد الظلم، والمطالبة بالحقوق، وتساوي الفرص، لاعتبرناهم مكمِّلين للنقص الطبيعي في أي خطاب،
أعلم جيدا أن الوقوف من أجل الإصلاح السياسي قيمة شرعية معتبرة، لكني موقنٌ أيضا أنَّ هذه الوظيفةَ محفوفةٌ بالمخاطرِ فلا يصمد لها إلا القليلُ، لذا كثيرون يطيب لهم أن يرفعوا الشعار دون تحريك حجر في طاولة الإصلاح، ليغنموا من المناضلين بطولتهم، ومن القاعدين سلامتهم.
نِتاج التَّنوير:
استطاع أمشاجٌ من هذه الفئة أن يتواصلوا مع بعض الشباب الصَّاعد، لما يتوافر عليه الشاب من ولعٍ بالجديد، ورغبةٍ في ركوب الموجات، فضلا عن شحن روحه المتوثبة بمعاني النضال والمقاومة؛ لم تكن التنظيرات الجميلة التي أُتْحِفْنا بها حول حِفظِ عقولِ الشباب من الانحراف الفكري والسلوكي مقاربةً لهذا النتاج البشري، ولا أدري هل يعلم هؤلاء أدعياء محاربةِ التشدُّدِ والغلو أيَّ جريرةٍ سيحملون وهم يوهِّنون في نفوس الجيل الجديد المعاني الشرعية المعتبرة، ويشحنونهم ضد العلماء الذين قضوا أعمارهم في دراسة الشريعة.
من المسؤولُ عن لِدَاتي الذين أعرفهم لم يقوَوا على إكمال (الملخص الفقهي) يتحدثون بشيءٍ من الفخامةِ عن التيسير الفقهي، وحاجةِ العصر، ومقاصدِ الشريعة، ثم يهمسون في تعالٍ: نحتاجُ إلى إعادة النظر في فقهِ السلف .. !، من الذي قال لهذا الفتى الغَض: كم نحن بحاجة إلى تنويري مثلك يخرجنا من غياهبِ الظلام ويخلِّصُنا من عصورِ الانحطاطِ وسلطةِ الرجعيين، فهناك أيها الأسد المغوار تغمرنا نشوةُ التحرير ونعلن انتصارنا على جحافل الليل القاتم وسننقلب في غمضة عين إلى مناضلين أحرار .. !