فاضح القرّاء
د. أحمد بن صالح الزهراني
١٢ رجب ١٤٣١هـ
من نعمة الله على هذه الأمّة أنّه لا يُخلي الأرض من الشخصية الأنموذج، لا أقصد الرجل الأمّة، الذي تجتمع فيه خصال الخير، فليس ذلك ضرورياً في كل زمن، وإنّما لا تكاد تجد جانباً من جوانب شخصيّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلاّ وجدت من يقوم بها، ويثبت أركانها في الأرض.
للأسف الشديد إنّ بعض هذه الجوانب يكاد يختفي في بيئات طلبة العلم، فضلاً عن غيرهم، وكثيراً ما يكون خفاؤها ناتجاً عن الإغراق في ضدّها تحت ذرائع شرعيّة أحياناً!
ومن ذلك جانب الزّهد والمباعدة عن الدنيا ولذّاتها .. وهو من أميز جوانب شخصيّة النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه .. ومع هذا يكاد يتلاشى من واقعنا ..
إذ أصبح ذلك شيئاً من الماضي، لم نعد نقابل ونرى زاهداً حقيقيّاً إلاّ ما ندر ..
وقد رأينا وسمعنا عن بعض الأخيار من أهل الزهد الحقيقي، أعني ذلك الّذي يمارسه صاحبه بينما الدنيا قريبة منه، بل طيّعة في يديه ..
بعض هؤلاء من أكابر أهل العلم .. رفضوا الملايين والقصور المنيفة والسيارات الفارهة، وفضلوا البقاء في طبقة الكادحين والمساكين .. وبين بعضهم وبين المال والجاه رمية حجر!
إنّ هذه النماذج الّتي أقامها الله في الأرض شواهد على ما اندرس أو كاد من فضائل الشريعة يصحّ فيهم وصف ابن السمّاك لداود الطائي الزاهد المعروف ..
عن حفص بن عمر الجعفي قال: اشتكى داود الطائي أياماً، وكان سبب علته أنه مَرّ بآية فيها ذكر النار، فكرّرها مراراً في ليلته فأصبح مريضاً فوجدوه قد مات، ورأسه على لَبِنَة، ففتحوا باب الدار، ودخل ناس من إخوانه وجيرانه ومعهم ابن السماك، فلما نظر إلى رأسه قال: يا داود فضحت القرّاء» .. يعني أنّه أبان عن حقيقة ما يعيشه العلماء في وقته من رغد العيش؛ إذ مات ابن السماك، ولم يجد وسادة يضع عليها رأسه ..
وأيّ رغد يتحدث عنه ابن السمّاك، لو رأى ما نحن فيه من ترف، وليته كان من خالص الحلال، إذاً لرددْنا ما ردّده الليث في ردّه على مالك: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ} .. فإذا نظرت إلى غالب مكاسبنا فإذا هي حرام خالص، أو شبهة غالبة، أو إسراف ومبالغة في الدنيا ..
دعنا نعرض الآن عن حل الكسب، ونتكلم عن فضيلة كادت تُنسى في خضمّ جوّ مسموم غلب فيه الكلامُ العملَ والتزيّنُ الظاهرُ التزينَ الباطن ..
إنّها فضيلة الزهد؛ فعلى الرغم من أنّ المنهج العلمي السلفي قد حارب الفكرة الصوفية التي تقوم على التعبد بترك الدنيا والتباعد عنها، ونجح في إقصائها، إلاّ أنّ واقع كثير منّا للأسف الشديد ينبي عن إفراط في جانب الحرص على الدنيا، والإغراق في الاستمتاع بها خارجاً عن حدّ المعقول، وأنا أتكلم عن القدوات من أهل العلم وطلبته والأخيار .. الذين يجب أن يراعوا من يراقبهم ..
لا يجوز أن يصدّر الإنسان نفسه حتّى إذا كان رأساً في الناس تصرّف تصرفات الأخفياء؛ فإنّ للرئاسة ضريبة!
عن زيد بن وهب الجهني قال: خرج علينا علي بن أبي طالب، ذات يوم عليه بردان متزر بأحدهما، مرتدٍ بالآخر، قد أرخى جانب إزاره، ورفع جانباً، قد رقع إزاره بخرقة، فمر به أعرابي، فقال: يا أيها الإنسان، البسْ من هذه الثياب فإنك ميت - أو مقتول - فقال: «أيها الأعرابي، إنما ألبس هذين الثوبين ليكون أبعد لي من الزهو، وخيراً لي في صلاتي، وسنّة للمؤمن» وفي رواية: «وأجدر أن يقتدي به المسلم» .. وفي رواية ثالثة: «يتعزّى به الفقير» .. رضي الله عنك يا أبا الحسن!
وقد سمعت شريطاً لأحد الفضلاء لا تملك دمعتك من شدّة تأثيره في السامع عن الله والدار الآخرة، ثمّ قُدّر أنّ أطلع على بيته فإذا هو قصر منيف لا يختلف عن قصور الأباطرة ..