[متى يحسن الرد على المخالف؟]
عبد العزيز بن مرزوق الطريفي
١ جمادى الآخرة ١٤٣١هـ
كثيرٌ ممَّن يُطيل الجَدَلَ والمناظرة لا يُفرِّق بيْن بيان إثبات الحُجَّة، وبين الإقرار بها، فيجعل لازمَ إثبات الحُجَّة أن يُقرَّ المحجوج بها، وهذا ليس من العلم والنظر، ولا مِن مقاصد التشريع في شيءٍ؛ وذلك أنَّ محل الإقرار في القلْب، واللِّسانُ ناقلٌ لِمَا في القلب، والصِّدق في هذا شاقٌّ جدًّا، حتى ربما ظهر الحقُّ لجميع السامعين، ويبقى المحاجَج في سَكْرة نفي ثبوت الحُجَج، والتهوين منها، والتعلُّقُ بالإقرار تعلقٌ بباطن لا يمكن الوصولُ إلى حقيقته، فإلْقاء الحُجَّة مع بيانٍ ووضوحٍ يفهمها المجادَل والسامِع لو أرادَا الفَهْم - كافٍ في قيام التكليف عليه؛ لذا لَمَّا كان أعظمُ تكليف - وهو الإسلام - يكفي في ثبوته الإسماعُ على وجهٍ ولُغةٍ يفهمها المخاطَب؛ قال - تعالى -: ? وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ? [التوبة: ٦]، فكفَى السماعُ الواضح الصحيح، ولم يُنتظر الإقرارُ؛ ? وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ? [النمل: ١٤]، فمن باب أوْلى الاكتفاءُ بما دونه مِن التكليف.
قال الإمام أبو يوسف: إثباتُ الحُجَّة على الجاهل سهْل، ولكن إقراره بها صعْب.
ولْيكتفِ صاحبُ الحق بالقَدْر الكافي من البيان وتَكْراره، من غير استرسال مع لَجاجةِ صاحب الباطل، فكلُّ قول باطل يندثِر ويتلاشى بانخفاض صوْت صاحبه، وأما الحقُّ فيعيش في النفوس، ويَبني بها صروحًا لا تندثِر بموْت أصحابها، فضلاً عن أصواتهم؛ ? فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ? [الرعد: ١٧].
ويَنبغي لصاحب الحق أن يَفْصِل بين ذاته والحقِّ الذي يحمله، فلا ينتقم لحظِّ نفْسه بالحق الذي معه عندَ الخطأ عليه، فبيْن حظِّ النفْس وحظِّ الحق قَدْرٌ مشترَك دقيق، لا يَعرف قدرَه إلا النُّدرةُ مِن الناس، وكم فوَّت الكتَّابُ من حظِّ الحق؛ بسبب استكمالهم حظَّ أنفسهم من حيثُ لا يشعرون، فيقابلون السوءَ بسوءٍ مثلِه وزيادة، فيصدُّون عن الحق، وكلَّما زاد حظُّ النفْس أكَلَ مِن حظ الحق، وربما كانت الغَلَبة لشُبهة الباطل؛ لأنَّ الذي يقابلها شهوةٌ في صورة حق، والشُّبْهة أقوى من الشَّهْوة.
والمناظِر في الحق قاضٍ يقضي في حقِّ الله، فلا يقضي وقلْبُه منصرفٌ إلى غير الحق، وفي الحديث: ((لا يقضي القاضي وهو غَضْبان))، وهذا في تفويت حقِّ البشر، فكيف في تفويت حقِّ الله؟!
ويُقابل هذا أن يُحجِم عن بيان الحق؛ خوفًا على حظِّ نفسه من أن يتنقَّصه جاهل، أو يلومه في نفسه لائِم، فهذا لم يهتمَّ أن ينتقصَ الحقَّ، واهتمَّ لتنقُّص نفسه، وأكثر أهل الحقِّ عندَ الفِتن من هذين النوْعين، والمنصِفون عند ذلك قليلٌ جدًّا.
ومِن خاف ملامةَ الناس إذا كتب وبيَّن، كتَب إذا أوْجس مدحًا أو حمدًا، وهؤلاء مِن أسباب اضطراب العامَّة في الدِّين، وكثرة المنافقين.
والمجاِل وإنْ كان قويَّ الحُجَّة حاضرَ البينة، فإنَّه يخاصم إلى غير قاضٍ، وإنما قاضيه عقلُ مقابله بالإقرار أو عدمه، ومَردُّ ذلك إلى كمال العقلِ والإنصاف، وتمام الدِّيانة، وهذه خِصالٌ نادرةُ التوافق في فرْد.
وأصعبُ الأقوال ردًّا أشدُّها سقوطًا؛ لأنَّ مَردَّها إلى التسليم بها، فلم يخطرْ في بال عاقل وجودُها، فضلاً عن استحضار جوابٍ في الذِّهْن سابقٍ لها.
ومِن الأعباء الشاقَّة التصدِّي لردِّ جَهالة لجوجٍ جاهِلٍ مستحكمِ الجهل، من جهتين:
• مِن جهة استحكام جَهَالته.
• ومِن جهته هو.