إذًا فالقول بأن الأصل في الأشياء الإباحة قول مقيد بالمنافع, ولا يصح استخدامه هكذا مطلقًا, إذ من الأشياء ما يكون الأصل فيها التحريم لا الإباحة وهي التي تعود بالضرر على النفس والمجتمع.
وحين نريد التعرف على المنافع والمضار لا بد أن تكون نصوص الشرع هاديًا لنا في معرفة كُنْهِ الأشياء, إذ إن المنفعة والمضرة ليس قياسهما دنيويًّا محضًا فتتجرد العقول لتهتدي إليه, بل هو ديني أولاً دنيوي ثانيًا, فلا بد للحكم بمنفعة أمر من التحقق من كونه لا يعود على دين العبد بالضرر مطلقًا, فإن عاد على الدين بالضرر فلا عبرة بما ينتج عنه من منافع دنيوية ولو كثرت.
كما أننا نقطع بأن ما يعود بالنفع على دين العبد ويعود بالضرر على دنياه لا وجود له مطلقًا, وإن توهمه العبد فليس حقيقة في نفس الأمر.
وما دمنا نتحدث عن الاستدلال الصحيح والفاسد فلا يفوتنا الحديث عن الخلاف الفقهي: فهو في معزل عن كل شيء يعدّ قضية وحده: إذ نرى كثيرين من دعاة هذه الفكرة يجعلون الخلاف في مسألة ما وحده مبررًا للتخير بين الأقوال في حكمها, ويرون أن مناط الاختيار هو مناسبة الحكم المختار لظروف العصر وحاجة الناس إليه, ولا عبرة عندهم بمدى قرب القول المختار لديهم من النص أو بُعده عنه, فكون أحد العلماء قال بهذا القول يعد عندهم شافعًا لاعتماده إذا كان متناسبًا في زعمهم مع حاجات العصر ومتطلباته.
ومن المعلوم عند علماء الأصول أن العامي لا يجوز له الترجيح بين أقوال المجتهدين، وإنما يجب عليه الرجوع إلى من يفتيه في مسألته, كما أنه لا يجوز له التنقل بين الأقوال تشهيًا، بل لا بد للمقلد من التحري فيمن يستفتيه، فإذا أفتاه فقد لزمته الفتوى.
وكذلك إذا اختلف المجتهدون فليس للعامي أن يرجّح بين أقوالهم، وإنما يتحرى أقربهم للسنة وآخذهم بالورع وألهجهم بالأدلة من الكتاب والسنة فيسأله, وإنما الترجيح مهمة المجتهد المنتصب للفتوى, فإن واجبه أن ينظر في الأدلة ويرجّح من الأقوال ما كانت أدلته أقوى سندًا أو دلالة, ولا بأس على المجتهد إن ترجّح لديه خلاف قولِ الجمهور ما دام مستخدمًا لأدوات الترجيح الصحيحة التي نص عليها الأصوليون في مصنفاتهم وأولها موافقة المنصوص عن الله ورسوله.
وكون قول من الأقوال أنسب للعصر وأيسر على الناس, لا يعد دليلاً قائمًا بذاته تقاوم به النصوص, أو يرجح به بين أقوال أهل العلم, لكنه علامة يعرف بها المجتهد صحة مذهبه، إذ إن التيسير على الخلق والرفق بالعباد من خصائص دين الإسلام, لكن لو صح الدليل في حكم لم نتعرف نحن على وجه كونه يسرًا ورفقًا على الناس فليس هذا مانعًا من الامتثال للحكم، كما أن عدم معرفتنا بأوجه التيسير في هذا الحكم لا تعني عدم وجودها.
وأختم هذه المجموعة من المقالات بالقول: إن مما لا يحسن إغفاله من أسباب الاضطراب الفكري: أمراض النفوس, من الهوى واتباع الشبهات والشهوات والحسد والحقد والمنافسة على الدنيا والرياء والتحبب إلى الأتباع أو الرؤساء, فكل هذه الأمور وغيرها من أدواء النفوس تحول دون تحري الحق .. نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.