للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويلتحق بذلك القواعد الفقهية الكبرى كقاعدة: إذا ضاق الأمر اتسع, والمشقة تجلب التيسير, فهي كلمات جامعة لمعاني عدد غير قليل من النصوص الشرعية, فهي بذلك أدلة باعتبار كونها جامعة لمعاني النصوص الشرعية, ومع ذلك لا يمكن أن يُستدل بها في مقابلة نص ذي دلالة خاصة, بل النصوص الخاصة مقدمة عليها, ويمكن استخدامها مع النصوص الخاصة كمعضدات لها لاسيما إذا كانت دلالة النص الخاص غير قطعية, أو في مجال الترجيح عند الاختلاف وتعادل الأدلة.

ولا يبعد عن المقاصد والقواعد: المصالح المرسلة, فكل أمر محرم يريد أهل الهوى إباحته يلجئون إلى الحديث عن المصالح المرسلة يردّون بها النص, مع أن الأخذ بظني الدلالة من النصوص أقوى من الأخذ بالمصالح المرسلة, وقد بلغ من ترويجهم هذا المصطلح لإباحة ما حرم الله تعالى أن صار مصطلحًا رائجًا حتى على ألسنة العامة لكثرة ما يستخدم لموافقة الأهواء في جميع وسائل الإعلام وفي كتابات بعض المتأثرين بهذا التوجه من المشتهرين بالعمل الإسلامي.

ومردّ الاغترار والاجتراء على المصالح المرسلة هو عدم القراءة في كتب أصول الفقه التي اعتنت بتحرير مسألة الاستدلال بالمصالح المرسلة, لأن من تأمل في هذه الكتب يعلم أن علماء الأمة قالوا بالمصلحة المرسلة لا لتكون وسيلة لضرب النصوص أو إباحة المحرمات وتحريم المباحات, بل هو قول مراد به حفظ النصوص, ويتجلى ذلك من تعريف العلماء للمصلحة المرسلة بأنها ما لم يرد من الشارع إلغاؤه أو اعتباره, هذا من حيث الإجمال، أما عند التحرير فإنهم يقولون: إن المصلحة إما أن تكون متحققة أو مظنونة أو موهومة, وكذلك فإن الشارع لا يمكن أن يكون ترك أمرًا من الأمور دون اعتبار أو إلغاء, لأن اعتبار الشارع وإلغاءه إما أن يرد على جنس هذا الأمر أو نوعه أو عينه, ولا يمكن أن يخرج فعل بشري عن أن يتعلق به حكم الشارع بأحد هذه الوجوه, فإذا ثبت إلغاء الشارع لجنس أمر أو نوعه , فلا يمكن أن يكون معتبرًا إلا إذا نص الشارع على عينه.

وكذلك إذا ثبت اعتبار الشارع لجنس أمر أو نوعه فلا يمكن أن نلغيه إلا بنص على عينه.

وبذلك نعلم أن الاستدلال بالمصالح المرسلة عند من يقول به ليس استدلالاً منفصلاً عن النص, بل هو استدلال مقرب للنص ومبين له.

أما على قول من يردّ الاستدلال بالمصالح المرسلة وهم جمهور العلماء فيرون أن لا حاجة إلى استحداث دليل جديد، لاسيما والاستدلال به مبنيٌّ على فرضية وجود ما لم يرد من الشرع اعتباره أو إلغاؤه.

وبذلك يثبت أن المصلحة المرسلة سواء أقلنا بها أم رددناها, إنما هي شاهد على رعاية العلماء رحمهم الله للنصوص في جميع الأزمان، ولا يمكن استخدامه ذريعة لرد النصوص والعبث بالمحكمات تحت أي ذريعة.

وحين نقول: إن كل ما يرِد على العباد من نوازل لا بد أن نجد في الشرع ما يثبته أو يلغيه, فإننا نسير وفق ما تقدم الحديث عنه من ثبوت شمول الشريعة بما يقطع الطريق أيضًا أمام من يحاول اتخاذ البراءة الأصلية دليلاً منفصلاً عن النصوص ليتيح لهم فرصة الحكم بإباحة ما تزينه لهم الأهواء، سعيًا وراء عصرنة الدين.

وذلك أن "البراءة الأصلية" أو "الأصل في الأشياء الإباحة": إنما هي مقيدة بالمنافع, ولذلك عبر كثير من محققي أصول الفقه عن هذه القاعدة بقولهم: الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار التحريم, فإذا تبينا ذلك عرفنا: أن الحكم بإباحة أمر بناء على عدم دليل يحرمه لا بد أن يُسبق بنظر آخر, وهو تأمل هذا المحكوم عليه: هل هو من المنافع أم من المضار؟ , فإذا تحقق كونه منفعة محضة حكمنا بإباحته, وإن ثبت كونه مضرة محضة قلنا بتحريمه, فإن تردَّد بين النفع والضرر حكمنا للغالب منهما.

<<  <  ج: ص:  >  >>