يمثل الصحابة رضي الله عنهم الجيل الأول من دعوة الإسلام، ويكونون اللبنة الأولى التي قام عليها الدين الختام للأديان.
وبالتالي فهم بالضرورة يتمتعون بالخواص التي تتمتع بها الأجيال الأولى من الدعوات العملاقة وتتصف بها اللبنات الأساسية فيها.
فالمستقرئ لمسيرة التاريخ السحيق لنشوء الدعوات الدينية يجد أن النماذج الأولى التي انبنت عليها تتصف بخواص لا توجد في غيرها من الأجيال اللاحقة، ويؤكد المفكر المصري: إبراهيم مدكور هذه الملاحظة فيقول عن الدعوات الدينية: " تقوم إبان نشأتها على معتنقين اتجهوا نحوها بقلوبهم وتفانوا فيها بأرواحهم"(في الأخلاق والاجتماع ٢٦).
ومن أبين تلك الخواص خاصيتان: الأولى: الصدق الإيماني، فالجيل الأول عادة يكون أصدق الأجيال في الأخذ بمبادئ الدعوة وأعمق إيمانا بأصولها وأشد تفانيا في الأخذ بقيمها، والثانية: العمق الإدراكي، فالجيل الأول عادة يكون أوسع الأجيال إدراكا لحقيقة الدعوة وأعمق تصورا لأحكامها وأكثر خبرة بتفاصيلها.
ومستند تلك الخواص يرجع إلى أن الجيل الأول يعيش حالة الانبثاق الأولى للدعوة ويشعر بلذة الإحساس بحالة الانتقال إليها، ويعايش مؤسس الدعوة ومرشدها الأول، ويشاهد اللحظات الأولى من ولادتها وبنائها، ويبصر تطوراتها وأحوالها وملابساتها، ويعاني من مصاعب تأسيسها وويلات نشرها ومتاعب الدعوة إليها وإقناع الناس بها, وبالتالي سيكون ولاؤه لها في غاية الشدة، وحبه إياها في نهاية المحبة، وإدراكه لحقيقتها في منتهي الوضوح.
وإذا كان هذا الأمر عاما تشترك فيه كل الأجيال الأولى من كل دعوة، فإن الصحابة رضي الله عنهم يفوقون غيرهم في تلك الخواص، فهم أصدق جيل عرف في التاريخ في التمسك بمبادئ دعوته، وهم أعلم جيل عرف في التاريخ في الإدراك لأصول ما آمن به، فليس في الأمة المحمدية ولا في غيرها من الأمم مثل الصحابة في الصدق الإيماني وفي العمق الإدراكي، وفقد حازوا قصبات السبق وارتقوا أعلى المعالي، وفي تأكيد هذا التفوق يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"(البخاري٣٦٥٠)، والخيرية هنا مطلقة تشمل كل خيرة، الخيرة الدينية والخيرة العلمية.
وفي تصوير حال الصحابة في الخيرية يقول عبدالله بن عمر رضي الله عنه:" كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم" ويؤكد عبدالله بن مسعود ذلك الوصف فيقول: " إن الله تعالى نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير القلوب، فاصطفاه لنفسه، واستخلصه، وانبعث بالرسالة، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء لنبيه صلى الله عليه وسلم، يقاتلون على دينه".
وهذا التوصيف متعلق بمجمل جيل الصحابة، وليس المراد منه التوصل إلى القول بعصمة الصحابة من الوقوع في المعاصي والذنوب، فهم ليسوا معصومين من ذلك، وليس المراد التوصل إلى القول بعصمتهم من الوقوع في الخطأ العلمي، وإنما غاية المراد بذلك القول بأن الصحابة لم يقع منهم ما يخرم القيم الإسلامية الكبرى ولا ما يتناقض أصوله الظاهرة، ولم يقع من أحدهم ما يعد خطأ منهجيا في الاستدلال، بل أكثر الأقوال التي خالف فيه أحدهم الكتاب والسنة راجعة إلى عدم علمه بالنص الشرعي لا إلى طريقته الاستدلالية، وأقلها راجع إلى خطئه الجزئي في فهم النص المعين.