[احتجاجات المناوئين للخطاب الشرعي]
مناقشة علمية
إبراهيم بن عمر السكران
-مدخل:
طوال السنوات السابقة كنت أسمع وأقرأ حزمة من "المقولات النقدية" التي توجه ضد الخطاب الشرعي، وعادة ما تبدأ هذه الجمل بعبارة (مشكلة الإسلاميين أنهم ... الخ) أو (مشكلة المشايخ أنهم .. الخ)، وتارة أخرى ألاحظ أن العبارة تبدأ بلغة أكثر انتماءً مثل (مشكلتنا أننا .. الخ).
والذي لفت انتباهي طوال هذه الفترة في هذه المقولات النقدية أن الفكرة تقريباً متشابهة بين هؤلاء النقاد الذين ينتقدون، بل وفي كثير من الأحيان تجد العبارة ذاتها متشابهة، فأسمع وأقرأ ذات المفردة في الحوارات التي تدور في المجالس العامة، وفي المقابلات الإعلامية التي تُجرى مع بعض المنتسبين للثقافة، وفي المنتديات الفكرية الإلكترونية، بل وكثيراً ما أتلقى رسائل على البريد الإلكتروني من بعض الأصدقاء تتضمن الفكرة ذاتها وبالعبارات ذاتها!
هذا التشابه الهائل في تلك الأفكار والعبارات النقدية التي تُشهر في وجه الخطاب الشرعي كان بالنسبة لي سراً غامضاً، حتى أنني وأنا أسمع وأقرأ وألاحظ سعة هذا القدر المشترك بينهم، أقول في نفسي يا ترى هل تَمَاثُل المخرجات يعكس وحدة المصدر؟ أي أن هذا التناسخ التوأمي في الأفكار والعبارات هل يمكن أن يدل على أن المصدر "شخص واحد" وهم ينقلون عنه جميعاً؟!
المهم أنني لاحظت أن أكثر هذه "المقولات النقدية" شيوعاً سبع مقولات تقريباً:
أولها: أن الخطاب الشرعي لا يعتني بالقضايا الحقيقية والفعلية وأسئلة وإشكاليات الناس المدنية، وثانيها: أن الخطاب الشرعي يهتم بالقضايا الشكلية ولا يعتني بقضايا الأخلاق حتى أصبح التدين تديناً مظهرياً وليس تديناً حقيقياً.
وثالثها: أن الخطاب الشرعي لا يعتني بالعلوم غير الشرعية بل ويشيع التزهيد فيها وأنه لا ثواب فيها مما أدى إلى تخلفنا في هذه العلوم.
ورابعها: أن الخطاب الشرعي لا يعتني بمقاصد الشريعة ومنهج الشاطبي مما تسبب في إغراقه في الحرفية في تفسير النصوص والجزئية في الاهتمامات.
وخامسها: أن الخطاب الشرعي منهمك ومشغول في صراعات ومعارك تاريخية طواها الزمن مثل قضايا الصفات والجهمية وخلق القرآن.
وسادسها: أن الخطاب الشرعي خلق موقفاً سلبياً ضد الاستفادة من المنجزات المدنية الغربية مما تسبب في تخلفنا المعاصر.
وسابعها: أن الخطاب الشرعي مجرد ذيل وتابع للنظام السياسي، وغارق في مديح الولاة والتزلف لهم، فهو أداة يحركها كما يشاء، وليس خطاباً شرعياً مستقلاً.
هذه المقولات السبع أكاد أسمعها في كل مجلس تثور فيه حوارات فكرية حول الواقع المحلي، وأكاد أقرؤها في كل مقابلة إعلامية يتم إجراؤها مع أحد المنتسبين للثقافة حين يتحدث عن رؤيته للخطاب الشرعي.
بل إنه من الطريف أن التشابه المتكرر بين هؤلاء النقاد يصل ليس فقط إلى الفكرة والعبارة، بل إلى أسلوب العرض ذاته، فقد لاحظت شخصياً أنهم كثيراً ما يستخدمون أسلوب السؤالين (أين نحن عن .. ؟) و (إلى متى ونحن نتحدث عن .. ؟)
فتراهم يقولون لك بصيغة السؤال الأول: (أين نحن عن مصالح واحتياجات وحقوق الناس؟ أين نحن عن قضايا الأخلاق وقيم العمل؟ أين نحن عن منجزات العلوم المدنية الغربية؟)
ثم يعقبونها بصيغة السؤال الثاني: (إلى متى ونحن نتحدث عن معارك الصفات والجهمية؟ إلى متى ونحن غارقون في القضايا الجزئية الصغيرة؟)
فلا أدري عن سر هذا التطابق في الفكرة، والمفردة، والأسلوب ذاته؟! وهذا التطابق في الحقيقة يمثّل بالنسبة لي ظاهرة طريفة فعلاً.
وهذه "المقولات النقدية" في الحقيقة تحمل أحكاماً ضمنية، بمعنى أنها تقرر أحكاماً عن واقع الخطاب الشرعي (بأنه يهمل قضايا معينة .. ويغالي في الاهتمام بقضايا أخرى)، ولذلك كنت حين أسمع شخصاً يردد بعض هذه المقولات النقدية فإني كنت أفضل دوماً أن أبدأ بالسؤال المنهجي: هل فعلاً أجريت دراسة مسحية أو استطلاعية -ولو كانت عابرة- على منتجات الدروس الشرعية والبحوث التي ينتجها الباحثون الشرعيون؟ وكنت دوماً أتفاجأ بردود مخيبة للآمال.
غالب الشخصيات التي تردد مثل هذه المقولات التقييمية ليس بحوزتها أية دراسة علمية تبرهن هذه الأحكام الضخمة التي يكررونها في مجالسهم بشكل معتاد.
ومن هاهنا فإنني قررت أن أقوم بكتابة ورقة موجزة تتضمن فحصاً لمدى الدقة العلمية في هذه (المقولات النقدية) التي تتداولها بكثرة المجالس العامة، والصوالين الأدبية، والندوات الثقافية، والأعمدة الصحفية، والمشاركات المنتدياتية.
ما مدى موضوعية هذه الأحكام وعلميتها؟ ما الذي يصح منها وما الذي لا يصح؟ أين أخطأ نقاد الخطاب الشرعي وأين أصابوا في هذه الاحتجاجات التي يوجهونها دوماً ضد الخطاب الشرعي؟.