أما الاجتماع على الحق والتنازل له فممكن حلو ميسور، ولاسيما الحق المنزل بالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم فقد جاء بشريعة سمحة جمعت المحاسن، وهدت إلى أقوم السبل، فحري بالنفوس المتجردة السوية أن تتبعه وأن تأتلف عليه، وحري كذلك بأن يكون الداعي إلى ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أكثر تبعاً من صاحب الشرع المحرف أو المبدل لو عقل الأتباع والمدعوون .. ولكن شأن الأهواء يأبى أن يكون الأحرى والأولى هو الأولى! ومع ذلك فإنَّ سلطان الوحي الذي أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم أبى إلاّ أن يقتحم قلوب كثير من الناس فكان أكثر الأنبياء تبعاً نبينا صلى الله عليه وسلم.
والذي يتأمل تاريخ الإسلام يجد أكثر الناس تبعاً من بني الإسلام هم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم من الأئمة العاملين المتبعين للوحي الذين لهم قدم صدق في الإسلام ثابتة، قد أخذو الكتاب بقوة، ولم يعرف فيهم متساهل أو مترخص متلاعب، جعل الوحي باسم المصلحة خلفه ظهرياً.
إن تمييع الدين والتنازل عن بعض الثوابت قد يجمع حول الداعية خلقاً بعض الوقت، ثم لا يلبس ذلك الجمع أن ينفض إما بموته فهم ما اتبعوه إلاّ لتحقيق مآربهم وإنما امتطوه ليكون ذريعة شرعية نحو شهواتهم، وإما بأن يجد الجمهور من هو أوسع فقهاً! منه ولك أن تقول: أرق ديانة! وإما أن يهدي الله من تلك الجموع فئاماً تبصر الحقيقة فتنفض عمن يزورونها، والنتيجة الحتمية اضمحلال الباطل وذهاب هيبته وظهور الحق وإياب دولته:(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ)[الرعد: ١٧]، ولو تأملنا في حال المجددين والمصلحين الذين تبعتهم الأمة ورفع الله ذكرهم فيها منذ القرن الأول وإلى اليوم، وجدناهم جميعاً مما يعنون بالوحي وإقامته بين الناس، يمسكون بالكتاب، ويحيون السنن، ويحتاطون للأمة، ما عرف واحد منهم بإحياء البدع، ولا الاندفاع في الترخص، وأمثال هؤلاء ومن جرى على سننهم هم من سوف يبقى علمهم ويشاد ببذلهم ولو بعد حين فهؤلاء إنما يجددون علم النبوة، أما غيرهم فسيضمحل ولو بعد حين، وتلك هي سنة الله في الأولين وسوف تبقى في الآخرين، إلى آخر الزمان، ومن سِرِّ ذلك أن الوحي هو الذي به يؤمن البشر وبه تصلح شؤونهم في سائر الأوقات والأماكن، فلا غرو أن يكون الداعي إليه أكثر الناس تبعاً، على أن المطلوب من أهل الحق أن يبينوه ويجتهدوا في دعوة العقلاء إليه، والله متم نوره ولو كره الكافرون.
فإن لم تقم للحق دولة تنصره وترعاه، بل مات أهله في الأغلال والسجون فهو أتم لأجرهم، والله يرفع ذكرهم، كما رفعوا دينه الخالص، وتأمل قول بعض السلف: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز! مات أحمد بن حنبل فتبع جنازته أهل بغداد، ومات ابن تيمية فتبع جنازته أهل الشام ... ومات ابن أبي دؤاد رجل الدولة فما تبعه عدد يذكر! مع أنه كان جواداً ممدحاً وكانت العامة والخاصة -سوى قلة- كانت تظهر له الموافقة خوفاً من بطش السلطان، والله المستعان.