أطلقت إحدى الشخصيات العلمانية السعودية تغريدة على موقع (التوتير) قبل يومٍ تقريبًا قالت فيها: "أنا أرضى بالعدل والحرية والمساواة تحت أي مسمى".
أجده من المناسب جدًا أن أفتتح مقالي بهذه المقولة الجوهرية التي تختصر مساحات شاسعة وصفحات عديدة للتعبير عما يريده الليبرالي المستلب أو التنويري المقهور.
أعتقد أنَّ سيادة الواقع، المحكوم بالقهر والغلبة والظلم واستلاب الحقوق، هو العامل الأساس في الضغط على عقول فئة من العقول الشابة الذكية والنابهة للبحث عن مخرجٍ سريع من هذا الواقع، وربما لأن النماذج والأمثلة الدينية المعاصرة التي يعرفونها لا تسمح باستنباط ملامح ذلك المخرج، لذا وجدوا أنَّ الحرية هي الحل الناجع والمثالي للخروج من واقع القهر والغلبة والأثرة. ولأنَّ هذا الحل هو الحل الوحيد -في نظرهم- فكان ولا بد من إلتزام لوازمه ومقتضياته وفق مبدأ "تحت أي مسمى".
ولا بد أن يتنبه المصلحون وعلى رأسهم علماء الشريعة أنَّ القهر يولد قناعات جديدة، واعتقادات حادثة، وهذه الاعتقادات تجر بدورها التزامات أخرى، وهكذا يجد الإنسان نفسه مضطرًا للالتزام بها حتى لا يخسر المبدأ الذي قرره، ليجد نفسه في نهاية المطاف محاطًا بتصورات مخالفة لما كان عليه في أول الأمر.
وهذا التأثر ليس وليدة العصر الحاضر، بل هو وليدة كل عصر يكون فيه الإنسان تحت ضغطٍ ما. ففي القرنين الهجريين الأول والثاني نجد أنَّ جملة من الأذكياء والعقلاء، الذين كانوا مدفوعين بحمى النضال عن الإسلام تجاه خصومه من أبناء المِلَل والنِحَل الأخرى، وجدوا أنفسهم مُلزمين بمجموعة مبادئ لا بد لهم من التزامها إن أرادوا المضي قُدمًا في نضالهم "العظيم". فمن أجل إبطال معتقدات الخصوم لا بد وأن يبطلوا مجموعة من الأمور منها على سبيل المثال:"قضية التقليد"، حيث قرروا أنه لا يُعرف بالتقليد الحق أو الباطل، ولأجل إلزام الخصوم بذلك التزموا بهذا المبدأ، فآل أمرهم -كما يقول الحافظ ابن حجر- إلى تكفير من قلد الرسول في معرفة الله تعالى، ولزمهم القول بعدم إيمان أكثر المسلمين.
ومن أخطر العوامل الواقعية التي يمكن أن تُولد عقائد جديدة "العامل السياسي"، حتى قيل إن "مذهب القدرية" كان أشبه بالمعارضة السياسية التي تشكلت كحركة مضادة للدولة المستبدة. ومثله قد يُقال عن "مذهب الجبرية" أو "المرجئة" أنها أيضًا حركات جاءت نتيجة ضغط الواقع لكن في اتجاهٍ عكسي. الخلاصة هنا هي أن العقول الذكيَّة المضطربة -على وجه الخصوص- تريد أن تتحرر من قهر الواقع بما تراه مناسبًا و"تحت أي مسمى".
وإذا أردنا أن نذهب أبعد من ذلك، من باب "لتتبعن سنن من كان قبلكم"، فسوف نجد أن التاريخ السياسي-الديني للمسيحية قد يُقارب ما حصل ويحصل بين المسلمين. فقد كانت "الكنيسة"، كممثلٍ رسمي وواجهة دينية للدين المسيحي، تخوض حرباً شرسةً مع الإلحاد والهرطقة التي أخذت في الانتشار في أرجاء أوروبا. لكن بسبب ممارسات خاطئة واعتقادات ضالة دخلت الكنيسة في عصر "الأزمات الداخلية" أي بين رجال الدين أنفسهم، وبشكل أدق بين طائفة الإصلاحيين الجدد، والحرس القديم للكنيسة!