[الضوابط الشرعية بين الثوري والمهدي]
د. أحمد بن صالح الزهراني
١٠جمادى الآخرة١٤٣١هـ
لا يكاد يمرّ يوم دون أن يخرج صوت جديد يردّ على من يحرم الاختلاط، ويجلب علينا بخيله ورجله، ويحشد الأدلة والبراهين التي يرى أنّها ترد على من قال بتحريم الاختلاط في التعليم وأماكن العمل ونحوها بإطلاق، ويبدأ في سرد الضوابط والقيود الشرعية الّتي يمكن معها تشريع الاختلاط، ومثل ذلك القول بجواز قيادة المرأة للسيارة، ومثله السماح بوجود السينما، وغير ذلك حزمة المسائل المُستحدَثة.
أكثر ما يثير العجب في حال هؤلاء المتفقّهة هو الغرور المتناهي، فهل يظنّ هؤلاء أنّ كبار أهل العلم والديانة والعلم بالشريعة وفقه مصالحها ومفاسدها على غفلة وجهل بهذه الضوابط والقيود التي يستطيلون بها على غيرهم؟
دعوني أنقل لكم هذا الموقف:
لما استُخلف الخليفة المهدي بعث إلى أبي عبد الله سفيان الثوري الإمام المشهور، فلما دخل خلع المهدي خاتمه فرمى به إليه، فقال: يا أبا عبد الله، هذا خاتمي فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة، فأخذ الخاتم بيده، وقال: تأذن في الكلام يا أمير المؤمنين، قال: نعم، قال: أتكلّم على أنّي آمن؟ قال: نعم، قال: لا تبعث إليّ حتى آتيك، ولا تعطني شيئاً حتى أسألك، قال: فغضب من ذلك وهمّ به، فقال له كاتبه: أليس قد أمّنتَه يا أمير المؤمنين؟! قال: بلى، فلما خرج حفّ به أصحابه، فقالوا: ما منعك يا أبا عبد الله وقد أمرك أن تعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة؟ قال: فاستصغر عقولهم، ثم خرج هارباً إلى البصرة). أ. هـ
بطبيعة الحال أيّ واحد منّا قد يعجب لهذا الموقف من سفيان، الخليفة يفتح له المجال ليعمل بالكتاب والسنّة وهو يأبى ويمتنع؟ أيّ سلبيّة هذه؟ وهذا كان موضوع احتجاج من أصحاب سفيان عليه ..
لكن سفيان استصغر عقولهم؛ لأنّه يعلم أنّ الخليفة إنّما أراد أن يتخذ من وجود سفيان في بطانته حجّة على غيره من أهل العلم حين ينكرون عليه، وكان يعرف أنّ مخالطتهم تغيّر القلوب، فكان يقول: إن الرجل ليستعير من السلاطين الدابة والسرج أو اللجام فيتغيّر قلبه لهم.
قال ابن المبارك: قيل لسفيان الثوري: لو دخلتَ عليهم، قال: إني أخشى أن يسألني الله عن مقامي ما قلت فيه، قيل له: تقول وتتحفظ، قال: (تأمروني أن أسبح في البحر ولا تبتل ثيابي، ليس أخاف ضربهم، ولكني أخاف أن يميلوا علَيّ بدنياهم، ثم لا أرى سيئتهم سيئة).
نعم هذه هي الطّامة وهي ما نعاني منه اليوم: أنّ بعض فقهائنا ودعاتنا للأسف لم يعد يرى السيّئة سيّئة، وأصبح يتأوّل للسيئات بأقبح ما يكون من تأويل.
نعود لسفيان: لماذا لم يقتنع بدعوة الخليفة، سأله رجل عن ذلك فقال: لأي شيء تهرب من الرجل - أي الخليفة - والرجل يقول: لو جاء لخرجت معه إلى السوق فأمرنا ونهينا، فقال له سفيان: "يا ناعس! حتى يعمل بما يعلم فإذا عمل بما يعلم لم يسعنا إلاّ أن ننصَب فنعلّمه ما لا يعلم".أ. هـ
أي أنّه مفرط في كثير مما يعلم أنّه مخالف فيه للشريعة ويصرّ على مخالفته، فلو صدق في نيته استكمال تطبيق الكتاب والسنة لبدأ بما يعلمه، فعند ذلك يجب علينا أن ننصب ونتكلّف تعليمه ما يجب من الأحكام التي يجب تطبيقها على الناس.
عرف سفيان بنور البصيرة الّتي وهبه الله إيّاها أنّه من الخير للعالم الذي يحترم علمه، ويحترم مبادئه ألاّ يشارك في تزكية الباطل، ولو كان بالتضحية في المشاركة في شيء من الإصلاح.