وهنا تتجلّى لنا ميزة يتميّز بها فقهاء السلف هو الفطنة والبصيرة في الدين، فإنّ الواحد منهم لشدّة تعلّقه بالله وتديّنه بدين الله وشدّة اقتفائه الأثر نوّر الله بصائرهم، وأمر آخر لا يقل عمّا مضى وهو تطلبهم الآخرة وشدّة احتقارهم للدنيا، سواء كانت منصباً أم مالاً، أم زوجة، أم غير ذلك من متاعها.
العبرة من قصة سفيان:
كثيراً ما نسمع اليوم مطالبات من هنا وهناك بأمور تدخل تحت ما حُرّم لأنّه ذريعة للحرام، وأصبحنا نرى تسارع بعض المتفقّهة في تلقّي ما يُلقى إليهم من مطالبات تستظهر الحق وتستبطن الباطل، ويخرج علينا كثير منهم وقد تمّ تلميعهم وتزويقهم ليحتجّوا بظواهر النصوص وعموماتها منزوعة من سياقاتها وسباقاتها على بعض ما يسمّونه حقوقاً، وأكثرها سوءاً وخبثاً ما تم طيّه تحت عنوان حقوق المرأة ..
لا ينكر عاقل أنّ المرأة مثلها مثل كل ضعيف تُنتهك حقوقها، وأهل الشريعة هم أوّل من يقف في صفها وصف كل ضعيف مادام المطلب شرعياً لصيقاً بضرورات الحياة وحاجاتها دون أن يكون معبراً للتغريب، وجسراً للعلمنة، وأداة لأهل المنكر.
(الضوابط الشرعية) .. هذه العبارة اعتدنا سماعها عند الحديث عن قيادة المرأة للسيارة ووجود المسرح والسينما والاختلاط -وهو حديث الساعة - يردّدها المتفقهة والسياسيون والمثقفون، بل إنّ من ابتذالها أن يحتجّ بها الليبراليون، وهم أكثر الناس كفراً بها، وتمرّداً عليها ..
وكلّ فقيه حقيقي نوّر الله بصيرته وألقى عن عينه غشاوة الدنيا، أو غفلة الصالحين وإفراطهم في إحسان الظنّ يعرف أنّ الضوابط الشرعية على الرغم من كثرة من يدافع عنها، ويطالب بتطبيقها من أكثر الضوابط انتهاكاً بلا رادع ..
نحن نعيش في حياتنا حالات كثيرة لا يُراعى فيها ضوابط القانون، ولا النظام، ولا الشرع، وفي أمور في غاية اليسر وفيها أصول مسطورة وقواعد مقدورة، ومع هذا فلا راعي لها.
خُذ على سبيل المثال الضوابط الشرعية في نظام المواد الإعلامية، فإنّك إذا تتبعتها وجدت غالبها في حكم المهجور أو الملغى ..
فعندما يغترّ بعض المتحدثين عن حقيقة ما يُراد تمريره تحت عباءة الضوابط الشرعية فهو بعيد جداً عن حكمة وحنكة فقهاء السلف الذين لم يكونوا يغترون بالكلام والشعارات ..
لا ينبغي للعالم والفقيه والداعية أن يجعل من جاهه وصِيته عند الناس وسيلة لتزكية مشاريع التغريب وتسليسها وتليينها لتمر بلا نكير حتى تصبح واقعاً يصعب الانفكاك منه.
الموقف الصحيح عند معايشة واقع مثل واقعنا أن نترك التغريب والتغيير عارياً مفضوح النزعة والدوافع والأهداف؛ لأنّ ذلك أجدر وأحرى أن يُغيّر ..
أمّا إذا حاول الفقيه المشاركة فيما هو أكبر منه فإنّه لن يمكنه أكثر من يكون بطاقة مرور للمشروع وشهادة تزكية مزوّرة.
عندما قال ميمون بن مهران - وغيره من السلف-: ثلاث لا تبلون نفسك بهن وذكر منها: (لا تدخل على السلطان وإن قلتَ آمرُه بطاعة الله) لم يكن غافلاً عن فقه المقاصد وفقه المفاسد والمصالح، كما يظن بعضنا أنّه يتقن هذا الفن أكثر منهم، ولهذا لم يختلفوا في القرب من عمر بن عبد العزيز؛ لأنّهم يعرفون منه الصدق في تطبيق الكتاب والسنة، لا الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض، كما يفعل بعض أهل السياسة في عصورنا هذه، ومن الحماقة أنّ يظنّ شخص أنّهم أكثر قرباً إلى الله ورسوله، وأكثر رغبة في تطبيق الشريعة من خلفاء بني أمية.
وعوداً على بدء فإنّ توظيف الضوابط الشرعية في الاستدلال لجواز هذه المطالبات هو كلام لا معنى له؛ إذ نظرة واحدة فيما حولنا ندرك أنّ كثيراً من الأمور تسير في حياتنا دون اهتمام ولا مراعاة للضوابط الشرعية، فكيف يمكن لعاقل أن يصدق واقعية أو حقيقة التعهّد بمراعاة الضوابط الشرعية في قيادة المرأة أو السينما أو الاختلاط البريء أو غير ذلك من شعارات أهل الباطل لمرحلة جديدة وخطيرة تمر بها بلادنا؟
مرحلة إن لم نتنبّه لها ونعي خطورة المشروع التغريبي الذي يُبنى فيها، ويُؤسّس له على أرضنا، وندرك أبعاده فستكون نقلة كبيرة واسعة تزيد من عرض البرزخ الذي يفصلنا عن الكتاب والسنة.
والله المستعان.