صدقاً، ما كنت أرغب في الدخول في هذا السجال، خصوصاً وأنه قد بدأ يطول، وبدأت بوادر السقوط في نكسة التكرار تلوح، وأخشى أن ندخل جميعاً في حلقة مفرغة، يكون فيها التعويل على مجرد المكاثرة والتكرار، وتكون الغلبة لمن يكتب أخيراً، وتضحى فيها العصبيات الشخصية والمجاملات هي المسيطرة على المشهد، دون محاولة جادة لتفهم أطروحات المخالف، والتنزل قبولاً أو رفضاً في مناقشة ما يطرحه من اعتراضات.
حين ترى فصيلاً يطرح إشكالية وتأتيه الاعتراضات مفصلة عن اليمين والشمال ثم تجده يعرض تماماً عن مناقشة تفاصيل هذه الاعتراضات فاعلم أن ثمة مشكلة حقيقية، وليس ينفعه إظهار الابتهاج والفرح بتحريك المياه الساكنة وإثارة النقاش، ثم هو يتمنع عن أداء واجب النقاش بالسماع والجواب. ليس القصد هنا بطبيعة الحال المطالبة بالتسليم باحتجاجات هذه الطائفة أو تلك لكن الحديث عن ضرورة مناقشة هذه الاحتجاجات والتعاطي معها على الأقل كشبهات تعكر صفو القضية المطروحة، وبالتالي فهي تحتاج لوقفات تجلي الموقف منها صحةً وفساداً، وليس من المعقول أن يعيد طرفٌ استجلاب اجتجاجاته القديمة ليقوم بإعادة طرحها من غير توقفٍ عند الاعتراضات التي قدمت حيالها ليطور من طبيعة الاحتجاج القديم مجيباً عن إشكال الخصم عند طرحها.
حين أقرأ مثلاً استدلال أحدهم (بأحكام الجزية) وما يترتب عليها من آثار ليخرج لنا بفكرة (سماح الشريعة بعدم تطبيقها)، فإنني لا أستطيع أن أخفي عجبي الشديد من هذا الاستدلال، تعظم حالة العجب طبعاً حين يعيد ذات الشخص تكرار ذات الاحتجاج مرة بعد مرة مع توارد الاعتراضات، هذا التصور الغريب لأحكام الجزية والذي يختزلها في ضريبة مالية تدفعها الأمم لقاء إبقاء دارهم على ما هي عليه وإقرار شريعتهم وسيادتهم كما هي هو تصور شديد الغرابة لمن قرأ ولو قليلاً في أحكام الجزية، بل لمن قرأ خاتمة آية الجزية {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، فالجزية إنما تؤخذ على أهل الذمة ليعيشوا في كنف الأمة المسلمة وفي ذمتهم أما الدار والشريعة فهي للمسلمين، الدار دار إسلام والشريعة الظاهرة شريعته، فلا أقل مع غرابة هذا الاستدلال وقيام المعارض من تثبيت هذا الاستدلال بالبرهنة والتدليل، لا أن يعاد مرة بعد أخرى وكأن شيئاً لم يكن. هذا مثال واحدٍ فقط من أمثلة كثيرة تعصف بهذا السجال وكأن الحوار إنما هو من طرف واحد، عليه واجبات التدليل وتقديم الإجابات أما الطرف الآخر فلديه كلام يريد أن يقوله ولا يهمه بعد ذلك ماذا قال أو سيقول الطرف المقابل، وراجع تفاصيل مشهد السجال وما قدمه كل طرف من أدلة وجوابات تعلم حجم الإشكال.