[قصة الغرب و"الآخر"]
عايض بن سعد الدوسري
الإثنين ٦جمادى الآخرة ١٤٣٢هـ
قبل سنوات قليلة اجتاحت العالم العربي والإسلامي حمى كلمة " الآخر "، وأصبح من النادر أن تجد مثقفًا أو صحفيًا أو نصف مثقف أو نحو ذلك لا يذكر كلمة " الآخر ". بعض هؤلاء - وليسوا بالقليل - يذكرون كلمة " الآخر " بخشوع وإخبات، ويستطردون في ذكر محاسنه وحقوقه وإيجابياته وما له علينا وماذا يجب علينا تجاهه، وكيف نُحسن صورتنا أمامه، وننظفها من العار والشنار الذي لحقها من قِبَلِنا، حتى أصبحت صورتنا غير نظيفة أمام " الآخر ".
وحيثُ إنَّ للآخر قصة يُستحسن أن نعرفها، وكيف نشأ مصطلح " الآخر "؟ ومن المقصود به؟ وما الذي نشأ قبله؟ وفي أي شيءٍ استخدم؟ هذه الأسئلة مهمة حتى لا تُستخدم الألفاظ في غير معانيها، أو تُقتطع من سياقاتها التاريخية، فتفقد قيمتها أو معانيها أو حتى دلالاتها الخطرة.
مصطلح " الآخر " مصطلح وُلِدَ في الغرب، وكان وجوده هناك مسبوقًا بوجود مصطلح " الأنا "، لأن الغرب يرى أنه هو " الأنا " وهو مركز الكون والحضارات، وبقية العالم تُسَمَّى " الآخر "، فنشأ ذلك المصطلح كدلالة على الاستعلاء الغربي تجاه الآخرين، وأصبح العالم يُرى من قِبَلِ زاوية " الأنا " الغربية كالآخر!
و" الأنا " الغربية هي نقطة البداية وزاوية الرؤية التي تُقيَّم من خلالها جميع الأشياء، وهذه الرؤية تأتي انطلاقًا من تمركز الفكر الغربي على الذات، الذي نشأ عنه اعتقاد الغربيين "بمركزيَّة الغرب"، ومن ثم أنتج استعلاءً على الآخرين، وكانت المدوَّنات الأدبية والفلسفيَّة الغربية سجلاً حافلاً وموثقًا سُجِّلَ فيه بكل دقة ملامح الاستعلاء الغربي على " الآخر "، الذي يتمثل في الحقيقة والواقع في الشرقي أو بعبارة أدق غير الغربي. ومن هذه النظرة الفلسفية أصبحت العلاقات قائمة على عدم المساواة، بل على غيرية تامة إلى درجة العداوة.
ويرى كثيرٌ من المراقبين أنَّ هذه الرؤية ليست حديثةً، بل لها جذورها الضاربة في القِدَم. فأرسطو - مثلاً - يرى أن (الآخر) هو الغريب، أما أكثر الفلاسفة المتأخرين فيرون أن (الآخر) هو الشخص غير الطبيعي، أو العدو، أو الشيطان، أو البربري، أو المتوحش، أو الخطر المميت، أو الشر، أو الإرهابي، أو الأجنبي محل الريبة!
ومن فلسفة الغرب لمصطلحيّ " الأنا - الآخر " انطلقت الحملات الاستعمارية تحت مسميات مختلفة، فتارة: حملات صليبية، وتارة: حملات ضد البرابرة، والعامل المشترك هو: أن "الآخر" ليست له قيمة مساوية للغربي، فهو بربري أو متوحش بلا قانون أو إيمان، ولذا فإن الحق في أخذ ما في يديه وما تحت رجليه وسرقة ماله وحقوقه حقٌ مشروع.
وقد بيٍّن (فرنسوا شاتليه) في كتاب " أيديولوجيا الغزو " أن الغرب قد نظر للشعوب -التي قصد بلادها الأصلية لاستعمارها - بوصفهم وحوش وبرابرة، فقد عرف الغرب -على حد قوله- أنواعاً من المتوحشين وخاض معهم تجربة؛ كمتوحشي أمريكا وكندا، أي السكان الأصليين الهنود.
وحينما عَرَّفَت الموسوعة الغربية L ENCYCLOPEDIE ( المتوحش) - في مقال خاصٍ بالتعريف بالمتوحشين- فقالت: إنه من الشعوب البربرية التي تعيش بلا قانون ولا شرطة ولا دين. ثم تُعطي مثالاً على ذلك بأمريكا التي ما تزال مأهولة بأمم الهنود الحمر المتوحشة -على حد وصفها- بدون ملك ولا قانون ولا إيمان!
لقد كان هذا كافيًا لأن تقوم الجيوش الغربية بغزو أمريكا الشمالية وإبادة الهنود الحمر إبادة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، مع أنَّ بعض الباحثين يؤكدون على أنَّ شعوب الهنود الحمر في أغلبيتهم من الشعوب المسالمة والطيبة، وأنه من الثابت بلا شك أنها شعوب لها لغتها وثقافتها وعاداتها وتقاليدها.