[العلماء .. وقصور الرسالة!]
(الحلقة الأولى)
عبد العزيز الطريفي
٢٤ ربيع الأول ١٤٣٢هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
من أظهر أسباب قصور النتائج الجهل بحقيقة الذوات، وعدم إدراك ميزانها.
وحصر منافع الأشياء أو قصرها على بعض وجوهها واستعمالاتها، تعطيل لنتائج تعظم وتحقر بحسب المفقود من قيمتها، وهذه سنة كونية، نراها حتى في مخلوقات الله المادية، فالمعادن وكنوز الأرض كانت بين يدي الإنسان منذ أول الخليقة، فهو لم يصنع الطائرة والتقنيات من عدم، ولكنه حينما جهل حقائق الماديات ووجوه الانتفاع منها أثر هذا على نتائجه من قصور مادي شديد إلى حضارة مادية كبيرة، فمعدن الطائرة والتقنية هو المعدن الذي كان بين كفي الإنسان يشرب به ويأكل وغير ذلك من الاستعمالات، فالمادة هي المادة والإنسان هو الإنسان ولكن العلم بحقائق الذوات قاصر، فقصرت النتائج.
وهكذا العالم في كل علم مع معلوماته ورسالته ومواقعها وآثارها في الناس، وكلما توسعت العلوم وتكاثرت تداخلت وتنازعت وزاحم بعضها بعضاً حتى في فروع العلم الواحد، ويجب الإيمان أن كل العلوم في الأرض والسماء متداخلة مهما اختلفت، ولو في أجزاء يسيرة، ويغيب عن الإنسان أكثرها ويعلم القليل جداً (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)، والعلم المطلق لله سبحانه وتعالى وحده.
إن العالم ورسالته في الإسلام دخلها الجهل بحقيقتها على عصور طويلة، فأثر ذلك على العالم في ذاته وفي مدى العلم الذي ينبغي أن يأخذه، ويؤديه ويبلغه، ونوع خطابه ورسالته، وسمته وحرفته التي يتقوت منها ويرتزق، وصلته بالناس، وعلاقته بالمادة، والسياسة وارتباطه بها، ومن جهل ذاته لم يؤد رسالته، وأخطر أنواع الجهل جهل الرجل بذاته.
لقد جاء الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوالى في ضبط الدين والدنيا وتكوين الصلة بينهما، وجاءت نصوص الوحي في أحكام الصلاة والزكاة والصوم والحج كما جاءت في ضبط البيع والشراء والتعامل مع الخلق والبهائم، وسياسة البشر والرؤساء وذوي الهيئات، والمتباينين في الديانة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إمام العلماء وسلطان الله في الأرض، يأمر وينهى كما أُمر ونُهي من ربه تعالى، وكانت صورة العالم السلطان مكتملة في جسد النبوة، فأثمر ذلك الأمان للأمة قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (أنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون).
ولهذا جاء تفسير السلف من التابعين لولي الأمر في القرآن أنهم العلماء تارة وتارة أنهم الأمراء، فهم يرون ذلك من المترادفات، لأنه في زمانهم لا يكون أمير يصدر عامة الناس عن قوله إلا وهو عالم عارف، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وقال تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) فسر ولاية الأمر بالعلم ابن عباس وأبو العالية ومجاهد وعطاء والحسن البصري وعكرمة.
وقد بقي سلطان الأمر والعلم في جسد محمد صلى الله عليه وسلم، ومن بعده من الأمراء كالخلفاء رضي الله عنهم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتى ما توعد).
وقد أخذ هذا التركيب ينفك شيئاً فشيئاً، حتى انفصل الأمر عن العلم، وأخذ السلطان يأمر وينهى بسياسة وقصور علم، وانزوى العالم وأخذ يأمر مع قصور في السياسة، فيرى السلطان ما لا يراه العالم، ويعلم العالم ما لا يعلمه السلطان.