وأي اختلال للأمان في الأمة، واضطراب في المجتمعات، فهو بسبب القصور في فهم العالم ورسالته، وانقسام جسد الأمر إلى عالم في جسد، وسلطان في جسد، وانفرد كل واحد منهما بشطر الرسالة، والعملة لا ينفصل أحد وجهيها عن الآخر وتَنْفُق على وجه صحيح في سوق الدين والدنيا.
وقد أحدث هذا الانفكاك فساداً في بعض أنواع العلماء وبعض أنواع السلاطين، ليكتمل وجه القصور في دولة الإسلام دولة الدين والدنيا، فيُحابي العالم في علمه ويترخص للسلاطين مظالمهم، وأخذ السلطان يُميْل إليه وجه العالم ليشتري منه الرأي ليكتمل النقص المفقود عنده وهو العلم والتشريع، فيضعُف العالم فيعطي السلطان رغبته ليكتمل له الأمر المفقود وهو نفوذ الجاه والأمر على الناس لقربه من السلطان.
وقد كان العلماء العارفون من السلف يُدركون أثر هذا الانفكاك، روى الدارمي في سننه عن الزهري قال: كان من مضى من علمائنا يقولون: نشر العلم ثبات الدين والدنيا، وفي ذهاب العلم ذهاب ذلك كله.
وهذا الانفكاك يزداد بقصور السلطان عن تحليه بالعلم، واكتفاؤه بثبوت الطاعة وتحققها، وبقصور العالم عن فهم السياسة ومصالح الناس في الأموال والحقوق، واكتفاؤه ببراءة الذمة لأنه يرى أن ذلك ليس من شأنه.
وهذا الانفكاك لا يُلغي أهلية العالم عن إكمال المنفك منه ليصدر قوله عن رأي نافذ ناضج، ولا يُلغي أهلية السلطان عن إكمال المنفك منه ليصدر حكمه وأمره ونهيه عن علم محكم، ولا يُلغي أيضاً السمع والطاعة بالمعروف للآمر عالماً أو سلطاناً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُنبِّيء في كثير من الأخبار ضمناً على انفكاك الأمر في الأمة واختلال نظر العامة في فهم وجهته، وهذا يُفهم كثيراً من حثه على السمع والطاعة في المنشط والمكرة بالمعروف مع إخباره بفساد الآمرين، ولذا قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه:(دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)، وهذا الاستثناء في الحديث (إلا أن تروا كفراً بواحاً) إشارة إلى البعد في انفصال العلم عن السلطان بُعداً يستوجب توحيد الكلمة ما لم يبلغ الكفر.
والطاعة لولي الأمر إنما جاءت في النصوص قوية في آخر الزمان مع فساد الأمر لأجل بيان ثبوت هذا الاختلال في الأمر، وأن ضبط الموازين والجمع بين هذه المفترقات الدقيقة أمر يفوق إدراك العامة ودهماء الناس، ومخاطبتهم بالعلاج متعذر، لهذا فيُكتفى بأمرهم بالسمع والطاعة بالمعروف، وأما العلماء فيعرفون حقيقة الرسالة التي حملوها، وتوجيه الناس بها كل زمن بحسب علمائه.
وإن من وجوه الخطأ أن يُدخل العالم نفسَه في خطاب العامة، فينزوي عن فهم حقيقة رسالته ومهماته، وماذا أنيط به من واجبات تجاه الناس وأحوالهم، ومحاولة إتمام القصور في الأمة وغرس الأمان فيها، وأظهر وجوه قصور العالم التي نراها اليوم: