للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أولاً: التغافل عن عموم الرسالة، وشمول خطاب الوحي في ضبط الدين والدنيا، وحصر العناية بالأحوال والأفعال والعلوم التعبدية الخالصة مما يُشترط فيها النية لحصول الثواب ورفع العقاب، كالصلاة والصيام والحج والذكر ونحوها، وتصحيح وجوه الخطأ والابتداع فيها، وأمر الناس بذلك وأطرهم عليه، ونهيهم عن الترك، وتغافل العلماء عن ضبط دنيا الناس، والاحتراز لأموالهم وصونها من العبث، وأخذها بالظلم والسلب والاختلاس، وما يتعلق بحقوقهم فيما بينهم، وتعاملاتهم في شأنهم كإصلاح ذات البين، وغشيان نواديهم، قصور في فهم الرسالة، وخطاب الوحي وميثاق الله المأخوذ عليهم، وقد أورث هذا اغتراباً في الأفعال وعزلاً للعالم وسلوكه في باب من أبواب العمل والتكسب، والترفع عن مخالطة العامة بالتكسب بالحرفة والصناعة وعمل اليد، والمتاجرة في الأسواق، بدلاً من ترقب يد من يستميله إليه فيعطيه ويمنعه.

ويوسف عليه السلام ولج إلى تصحيح دنيا الناس، لعلمه بها وخبرته السابقة بذلك لذا لما طلب إدارة خزائن الأرض قال: (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) يرى استحقاقه لذلك بسبب الحفظ وهو الأمانة وكذلك العلم وهو معرفة أمر المال وشأنه وتدبير أمور الناس المالية.

وانشغال العالم بالنوع التعبدي الخالص، والتغافل التام عن الآخر أورث انفصالاً في فهم الرسالة، وتهيئةً للأفكار الداخلة على العلم في الإسلام أن الدين والدنيا منفكان عن بعضهما، وأصبح تغافل كثيرٍ من العلماء عن حياة الناس وشأنهم، أرضاً تنبت عليها الأفكار المادية كالعلمانية والليبرالية والشيوعية الاشتراكية لأنها بديلٌ في ضبط دنيا الناس عند فساد دنياهم من ظلم ظالم وقهر قاهر، وربما كان انشغال العالم بشطر رسالته مسوغاً لاستنكار دخول العلماء العارفين في ضبط حياة الناس والعناية بشأنهم، وينتج عنه أن وَجد رموز الفكر العلماني بيئة الإسلام منفكة إلى أصحاب دين وإلى أصحاب دنيا، فاحتاجوا إلى تنزيل الأسماء فحسب، من غير حاجة إلى فصل الأفعال.

وأصبح هذا القصور دعوة مؤيدةً لتصنيف العلماء وتحزيبهم، وربما اضطرب العلماء الداخلون في مصالح الناس في معرفة الوجه الصحيح لموقفهم، بسبب عزلتهم عن مسالك غيرهم من العلماء، فيشعرون بالغربة والعزلة، ومع طول عهد يضعف في كثيرٍ منهم التدين، ويبقى الدين والورع ملازماً لكثيرٍ ممن نأى بنفسه، فتضطرب العامة في فهم الطريق الصحيح إلى أي العلماء يسلك وبأيهم يقتدي.

والعالم وإن انفك عنه السلطان في الأمر ينبغي أن يُكمل ما نقص من أمر السلطان في الأرض فيكون له عوناً إن غفل أو تغافل أو ظلم ببينة ومكابرة ويكون ذلك بالبيان ومقتضى الحال بالمعروف والحسنى، لا بالمنازعة والمغالبة في كل حال لأن ذلك قد يفضي إلى إضاعة الأمر كله بعد أن ضاع شطره.

وإنما تضعف منزلة العالم في الناس إذا انشغل عن دنياهم.

ثانياً: الخلط بين زهد العالم في حفظ الماديات لنفسه، وزهده في حفظ الماديات للناس، وكثيراً ما لا يتم التفريق بين المقامين، فزهد العالم في الدنيا لنفسه محمود، وزهد العالم في حفظ أموال الناس والعطاء لهم وصون حقوقهم مذموم، فالنبي صلى الله عليه وسلم لو أراد الدنيا لكان أكثر الناس مالاً وحظاً فيها، ولكن زهد فيها، ومع هذا فكان أكثر الناس حرصاً على العطاء وإغداق المال على الناس، وإصلاح ذات البين والحث على حفظ أموال الناس وتحريم أكلها.

ففي الصحيح عن أنس أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنما بين جبلين فأعطاه إياه فأتى قومه فقال: أي قوم أسلموا فوالله إن محمدا ليعطي عطاء ما يخاف الفقر، فقال أنس: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها.

<<  <  ج: ص:  >  >>