[الصيام]
محمد الخضر حسين (ت:١٣٧٧هـ)
نُشر عام ١٣٢٢ هـ
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: ١٨٣]
هذه الآية مدنية، وهكذا الشأن في كل آية استفتحت بهذا العنوان، بخلاف ما افتتح بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، فقد وقع في الآيات المكية والمدنية، وإنما ابتدأت بهذا المطلع الذي يخص المؤمنين؛ لأنها سيقت للتكليف بأمر فرعي وهو الصوم، وكذلك جرت سنة كتاب الله أن يفتتح الأوامر الفرعية بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} نحو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: ٧٧] الآية، ونحو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: ٢٥٤]، وكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: ٩٠] الآية إلى غير ذلك.
ويُصدِّر الأوامر الاعتقادية بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، والسر في ذلك أن الفروع لا تصح إلا مع وجود شرطها وهو الإيمان، فناسب توجيه الخطاب إلى من حصلوا على شرط صحتها وهم الذين آمنوا، مع ما في ذلك من تقوية الداعية لهم، والمبالغة في التهييج إلى العمل، فكأنه يقول لهم أيها المؤمنون شأن المؤمن بالله أن يتلقى أوامره بغاية القبول وسرعة الامتثال، ومن يرى من الأصوليين عدم تكليف غير المؤمنين بفروع الشريعة لا يحتاج إلى بيان وجه العدول عن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، في الأوامر الفرعية.
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: ١٨٣]، الصيام في اللغة: الإمساك عما تنازع إليه النفس، كالكلام والطعام والشراب والنكاح، وفي الشريعة: الإمساك عن المفطرات بياض النهار.
وشرع الصيام لتصفية مرآة العقل، ورياضة النفس بحبسها عن شهواتها، وإمساكها عن خسيس عاداتها، وليذوق الموسرون لباس الجوع فيعرفون قدر نعمة الله عليهم، وتهيج عواطفهم إلى مواساة الفقراء.
قال أبو بكر بن العربي: (كان من قبلنا من الأمم صومهم الإمساك عن الكلام مع الطعام والشراب، فكانوا في حرج، ثم أرخص الله لهذه الأمة في الإمساك عن الكلام ليرفعها بالكرامة في أعلى الدرج، فوقعت في ارتكاب الزور واقتراب المحظور في حرج، فأنبأنا الله سبحانه على لسان رسوله أن من اقترب زوراً أو أتى من القول منكوراً، أن الله سبحانه في غنى عن الإمساك عن طعامه وشرابه).
يسمع الناس بحديث ((لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك))، وحديث ((كل حسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به))، وحديث ((الصيام جنة))، فيضعونها في غير مواضعها، ويحملونها على غير محاملها، باعتقاد أنها صادقة على أهل الدرجة الأولى وهو خطأ صراح.
كيف تكون رائحة فم تقذر بتناول الأعراض، والتمضمض بنحو الكذب والهذيان والمراء أطيب عند الله من ريح المسك؟ وكيف يستاهل صيام تجهم وجهه بسماجة المعاصي أن يضاف إلى ملك الملوك جل جلاله ويتولى جزاءه بنفسه؟ وكيف يكون الصيام جنة ووقاية من عذاب الله، وقد انخرق سياجه وتدنس ذيله بقول الزور، والتلبس بالآثام التي تهيئ له في نار جهنم وطاء وغطاء؟ نعم لأهل تلك الدرجة ثواب عن صيامهم، ولكنه لا يبلغ في الموازنة مبلغ ثقل أوزارهم فيستحقون هذه الكرامات.
ومما يعاكس حكمة الصيام، ويهدم أصل مشروعيته، الإسراف في الأكل سواد الليل، والتفنن في الأطعمة تفنن ذوي الأرواح القدسية على الأذواق العجيبة وأسرار الملكوت، ومنهم من لا يقنعهم التمتع بها في بيوتهم حتى ينقلون أحاديثها اللذيذة عندهم إلى المنتديات العامة والمجتمعات التي تضم أشتاتاً من الناس، ويتواجدون لسماعها ولا تواجد الأم بنغامات صبيها عندما يكاد يبين لها عن مآربه الخفية، وإنه ليعظم في عينك الرجل بادي الرأي حتى تحسبه من رجال الأمة، فما يروعك إلا وقد أخذ يسوق إليك حديث الأطعمة، ويشخص لك هيئاتها يحللها لك تحليلاً كيماويًّا، ثم يطبخها بلسانه مرة أخرى، وإن لفقه النفس أثراً عظيماً في تعديل المخاطبات وتحسين العادات.
{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: ١٨٣] هذا التشبيه عائد إلى أصل إيجاب الصوم، والمعنى أن الصوم لم يفرض عليكم وحدكم حتى يعظم وقعه في نفوسكم، بل كان مكتوباً على الأمم الماضية من لدن آدم إلى عهدكم، وما يقوله بعض المفسرين من أن التشبيه يعود إلى وقت الصوم وقدره أيضاً لا يلتفت إليه بدون أثر صحيح يثبته، وكل ما جاء في القرآن مطلقاً أو مبهماً لا ينبغي تقييده أو حمله على معنى معين إلا بحديث ثابت. وفائدة هذا التشبيه تهوين هذه العبادة الشاقة، وتخفيف وطأتها على الأنفس ببيان عدم اختصاصهم بإيجابها؛ لأن الأمور الشاقة إذا عمت سهل تحملها، ولم تشفق الأعناق من التطرق بعهدتها.
و {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: ١٨٣] تصيرون أتقياء، فإن الصوم يقهر النفس ويخطمها عن مألوفاتها، وذلك مما يورث التقوى، وقد فسرت (الجنة) في حديث (الصيام جنة) بالوقاية والسترة من المعاصي رعاية لهذا المعنى، وهو ثاني فهمين في الحديث. أولهما ما أشرنا إليه فيما سبق، وقد كنى عليه الصلاة والسلام عن طهارة نفوس الصائمين من رجس المعاصي، وتخلصها من البواعث على الفواحش بغلق أبواب النار وتصفيد الشياطين، كما كنى عن تنزيل الرحمة وحسن القبول للأعمال بفتح أبواب الجنة في قوله: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة - وللبخاري أبوب السماء - وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)) وحمل هذا الحديث على الكناية أعظم للمنة، وأتم للنعمة، وأفيد للصائمين من حمله على ظاهره، ولا مانع من حمله على الحقيقة أيضاً.
المصدر: كتاب (موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين، دار النوادر بسوريا، ط١، ١٤٣١هـ، (١٢/ ١٠٨) (بتصرفٍ يسير)