للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الإرجاء الفكري]

بدر بن سعيد الغامدي

٢٣شعبان١٤٣١هـ

لَمَّا ظهر الإرجاء (١) في عهد السلف، وقف له أهل العلم الراسخون، العالمون بالدليلِ وحقيقةِ القول، وما عداهم لم يكن له موقف مشهود. تشهد بذلك التراجم والمصنفات التي وصلت إلينا؛ فإنه متى ما تخلل النقص في أحد هذين الأصلين: (العلم بالدليل ومقاصد الشريعة) و (حقيقة القول المخالِف) ترى تخبُّطاً وخلطاً عجيباً: إما جنايةً على الإسلام وتصويراً له على غير ما أراده الله، أو رِفعَةً من قَدْرِ المقالة المخالفة بالتسامح واللين معها مع شناعتها، ومن يمتاز بهذين الأصلين قليل اليوم؛ فإنك ترى من لديه علم بالشرع يصل إلى حدِّ الإحاطة، ولكنه ضعيف في سبر أغوار أقوال المخالفين؛ فلا يستطيع معرفة حقائقها وكشفَ عوار مكنوناتها، وإما أن تجدَ من أُشرِب هذه المقالات على قلَّة بضاعته في العلم الشرعي، فيظهر لك التخليط في كلامه.

وهذا الأخير من جنس بعض رجال أهل الكلام الذين حَسُنَت نيَّتُهم، وساء عملهم، بسبب قلة علمهم بالأدلة الشرعية مع علمهم العميق بأصول علم الكلام، فأرادوا الدفاع عن الدين ولكنَّ قلَّة البضاعة الشرعية لم تُسعِفهم، وفريق منهم تسرَّبت إليه بعض شُبَه القوم، فلم يستطع أن يدفعها، فصار ينضح بها فؤادُه وينمِّقها لسانه، و (كلُّ إناء بما فيه ينضح).

يقول الإمام النخعي: لَفِتنَتُهم عندي أخوَف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة (٢)، وصدق - رحمه الله - لأن القعود عن التكليف ترغبه النفس، بعكس تَنَطُّع الخوارج الأزارقة، ونحن نعاني اليوم من تفلُّتٍ من الأوامر، وتقحُّمٍ في المناهي، مع مصيبة أعمُّ وأطمُّ، وهي: تبرير هذا وتسويغه ممن اختل عندهم أحد الأصلين السابقين، وهم منتسبون مع هذا إلى الإسلاميين.

وبرز لنا إرجاء فكري، يحاول مد حبل الوصال مع الطائفتين، على غرار ما فعل الفلاسفة المنتسبون إلى الإسلام بين الفلسفة والإسلام؛ فأراد هؤلاء المحدَثُون: تخفيفَ شناعة بعض المقالات وتهوينها من جهة، ونبذَ التشدد والغلو (بزعمهم) من جهة؛ لينتج لنا حينها - بناءً على رأيهم -: الإسلام الوسطي.

ونحن اليوم في مواجهة سيل من الأفكار الهدامة، يقف النص الشرعي سدّاً أمامها، ومتى ما عُدِمَ النص اجتاح السيل الفكر البشري فأصبحت البشرية حينها أثراً بعد عين، وعدنا كما كنا في ظلمات بعضها فوق بعض.

وهذا لا يكون مع وجود الوحي المنزَّل؛ ولكن الوحي لا يسير على الأرض، بل يحمله {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: ٣٢].

والإرجاء الفكري هو نوع من الخنوع والضعف أمام هذه المقالات، وصاحبُه عبدٌ لغير مُنْزِل الوحي، أسير لظنونٍ وتخرصاتٍ تكون تارة باسم (المصلحة)، وتارة باسم (المجادلة بالحسنى)، وتارة أخرى باسم (عدم التشدد والغلو) ... إلى آخِر هذه القيود والأغلال، التي هي حق أُرِيد بها باطل.

والإرجاء الفكري اليوم لا يصرِّح بمقالات الإرجاء القديم، ولكنَّ أفكارَ ذاك القديم تعشِّش في فكر هذا الحديث، والمحصلة واحدة كما سبق، وهي: (التفلت من الأومر، والتقحم في النواهي) (٣)، وكما كان أهل الإرجاء القدماء على درجات في مقالتهم، فإن أهل الإرجاء الفكري هم كذلك في فكرهم.


(١) المرجئة طوائف يجتمعون في إخراج العمل عن مسمى الإيمان، وظهروا في أواخر عهد الصحابة، انظر الملل والنحل للشهرستاني: ١/ ١٣٩ ومجموع الفتاوى: ٧/ ٢٩٧ فما بعدها.
(٢) مجموع الفتاوى: ٧/ ٣٩٤.
(٣) سبق ذكر أن المرجئة درجات، ومنهم وإن كان يُخرِج العمل عن مسمى الإيمان؛ إلا أنه يحرص على العمل ويحث عليه ويحتفي بأهله كمرجئة الفقهاء.

<<  <  ج: ص:  >  >>