[توقير الفلاسفة وتعظيم الحرية .. في صحافتنا الموقرة]
ماجد بن عبد الرحمن البلوشي
١٣ جمادى الأولى ١٤٣١هـ
لمّا بُعث النبي صلى الله عليه وسلم، كان لكفّار قريش من الحرّية نوع شبيه بما لدى كفّار الغرب الآن، فهناك حرية للاعتقاد وحرية للتملك وحرية للسلوك، فالجميع حر فيما يفعل ويعتقد ويتملك.
قالت عائشة رضي الله عنها واصفة مشهدا مروعا تشمئز منه النفوس وتقشعر له الأبدان من تطبيقات تلك الحرية: كانت مناكح أهل الجاهلية على أربعة أقسام؛ أحدها: مناكح الرايات يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة، لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن, فإذا حملت أحداهن ووضعت جمعوا لها ودعوا لهم القافة، ثم الحقوا ولدها بالذي يرون، والثاني: أن الرهط من القبيلة أو الناحية كانوا يجتمعون على وطئ امرأة لا يخالطها غيرهم فإذا جاءت بولد أُلحق بأشبههم، والثالث: نكاح الاستخبار وهو أن المرأة إذا أرادت أن يكون ولدها كريما بذلت نفسها لعدة من فحول القبائل ليكون ولدها كأحدهم، والرابع النكاح المعروف يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته؛ فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم.
فهل تجدون فرقا بين هذا الذي ذكرته عائشة رضي الله عنها مما حاربه الإسلام وأعلن الثورة عليه وهدمه هدما وبين واقع الحريات المطلقة في عوالم اليوم، والتي يتغنى بها المستغربون من الكتاب ويعدّونها جنة الدنيا وفردوس العالم؟
وهل أُقرَّ كفار قريش في جاهليتهم على ذلك حين جاء الإسلام أو سايرهم فيه وصانعهم عليه؟ وهذا السلوك الموغل في اعتناق الحرية، بعدّها قيمة مطلقة في ذاتها، لم يكن من صنيع كفار قريش دون بقية الأمم، فقد حكى الله عن أهل مدين أنهم عارضوا حكم الشريعة التي أتى بها نبي الله شعيب عليه السلام، وكان منطلق المعارضة عندهم أن شريعة شعيب تحول دونهم ودون حرية الفعل في أموالهم بما يشاؤون لا بما تُمليه شريعة شعيب ـ وهذا هو عماد فلسفة آدم سميث التي قامت عليها الرأسمالية الغربيّة فيما بعد ـ، فقالوا له قولتهم المشهورة: يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء، فعارض هؤلاء حكم الشريعة وقانونها بحكم الحرية وقانونها، فما أغنت عنهم حريتهم التي ينتحلون من الله من شيء لما جاء أمر ربك، وحقت عليهم كلمة العذاب فحاق بهم من النكال والخزي ما تعددت صوره ولم يلحق نظيره بغيرهم من الأمم.
والقرآن مملوء ـ بوضوح وصراحة وكثافة بيان يفهمه العيي قبل الفصيح ـ بما يقضي أن نظام الشرع في واد ونظام الحرية المطلقة في واد آخر، فلا يلتقيان حتى يتعانق القمران في كبد السماء.
لقد جاء الإسلام وكفّار مكة يتنعّمون بتلك الحرية تنعّم المترف، وكانت الفلسفات بأنواعها قد عمّت الأرض في مصر والهند والصين وبلاد فارس واليونان، والله يعلم ما في السموات وما في الأرض ويعلم الغيب والشهادة ويعلم ما كان وما سوف يكون فحكم على جميع هذه الفلسفات بالبطلان وقضى على الحرية المطلقة بالفساد، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(إن الله اطلع على أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب).
فلو كانت لهذه الفلسفات مكانة عليّة في الإسلام، لأخذ منها الحجج والبراهين ولأحال على مباحثها ولجعلها معيارا للحقائق أو لبعضها، غير أن شيئا من ذلك لم يكن، فهاهو نور الإسلام يمحو ظلمات العلوم والمعارف الأخرى.