ولم تقف الشريعة عند هذا، فأتت بالقواعد والكليات التي تضبط العلوم وأسست نظريات البحث في الأمور الشرعية والمعرفية بأدوات تامة كاملة، فقد كان الصحابة والتابعون من كبار العلماء ومن أهل البحث والنظر والمعرفة، ولم يقرأ أحد منهم كتابا إلا ما جاءت به الشريعة من القرآن والسنة، وسار على طريقتهم من تبعهم من علماء السلف الصالح، فما عرفوا نظرا في كتب الفلاسفة ولا قرؤوا علوم المنطق أو درسوا مباحث الفلسفة، مع أنها ملأت الدنيا نشرا وشغلت العلماء بحثا، وطائفة كبيرة من علماء الأمة حرّمت النظر في كتب الفلسفة والمنطق، وبالرغم من كل ذلك فما اشتكى المسلمون يوما نقصا في أداة معرفية أو في طريقة لمعرفة الحق أو انقطعوا في مناقشة أو أفحهم مناظِر، بل ناظروا أهل الملل والنحل ومختلف الطوائف بمحكمات الحجج وقواطع البراهين ـ عقلا ونقلا ـ فردوا شبههم ونقضوا أصولهم وشردوا بهم من خلفهم وجعلوهم سلفا ومثلا للآخرين.
فأين هم المعتزلة اليوم؟ أين الجهمية؟ أين الزيدية؟ أين الكرّامية؟ وأين البقية الباقية من أنصار الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وإخوان الصفا؟ هذه الجامعات في بلاد الدنيا تدرّس ما اندثر من علومهم وتطبع بوائد كتبهم وتبعث رميم أفكارهم من مراقدها وتقيم لهم الأيام وتحيي الموائد وتعطي الجوائز وتغدق الأعطيات، فما أغنت عنهم شيئا ولا بعثت لهم فكرا ولا أحيت منهم ميتا.
واليوم يخرج في صحف المسلمين ومجلاتهم ومنتدياتهم من يعظّم الفلاسفة الغربيين، لا تعظيم جدّهم واجتهادهم، فهذا من مواقد العزم في النفوس البشرية، لكن تعظيم الفتنة بعلومهم والرضا بنتائجها، فما عادت الشريعة وأحكامها معيارا للعلوم والمعارف، وإنما طفق هؤلاء يستغيثون الفلاسفة، ابتداء بديكارت وسبينوزا وهيغل وكانت وانتهاء بنيتشه وفرويد وراسل وبوبر وقرونا بين أولئك كثيرا، وينظرون في فلسفاتهم نظر المعظّم لها والمبجّل لأصحابها، ويجعلون منها قوانين معياريّة لتصحيح الأقوال والحكم على العلوم وتهذيب سلوك الأفراد والمجتمعات، ويقرؤون لهم قراءة الصب الواله.
أما كتب السنة، كصحيح البخاري ومسلم والسنن الأربعة ومسند الإمام أحمد، وتفاسير كتاب الله تعالى لأئمة العلم والهدى كابن جرير الطبري والقرطبي والبغوي وابن عطية وابن كثير وغيرهم، وكتب العقائد والفقه وبقية علوم الشريعة فهي عندهم من كتب التراث فحسب، وكثير منها صار نسيا منسيا وسِفرا مهجورا، والباقي يقرؤونه ـ إن قرؤوه ـ كما يقرؤون كتاب ألف ليلة وليلة، يتفكهون به ويستظرفون نوادره ويستنكرون غريبه وينفرون من صرامة أحكامه ويحاكمون أئمته بقوانين أولئك الفلاسفة الذين كانوا يعيشون أحوالا عصيبة من تشظّي الذات وظلمة الروح واعوجاج السلوك، بل يرون العلماء على أنهم طائفة من الدراويش غاية أمرهم أن يعقلوا أحكام النقل المجرد لا العقل الناقد.
فإذا ذُكر لدى هؤلاء علماء السلف ومفاخرهم العظيمة اشمأزت قلوبهم وأدبرت أرواحهم وإذا جرى ذكر الفلاسفة الغربيين ومناهجهم ومدارسهم إذا هم يستبشرون.
فهل الزندقة إلا هذا؟ وهل قرأ هؤلاء ما دوّنه علماء أصول الفقه والبحث والنظر، ممن لم يخلطوا بين دقائق علوم الاستنباط بصفائها ونقائها وأصالتها وبين شوائب علم المنطق المستورد من تراث الإغريق؟