للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهل وقفوا على ردود الإمام أحمد على شُبه المعتزلة بقض عقولهم وقضيضها وكيف أفحمهم وقطع دابر شبههم وهم المعروفون بشراسة البحث وصرامة النظر وحدّة الرأي ومعهم جيش الدولة بدءا من رأسها المأمون وانتهاء بالعساكر والجنود المجندة فضلا عن علماء السوء ووعاظ السلاطين وخذلان المقربين وسكوت الصالحين فصيّر جبال حججهم كثيبا مهيلا، وردوده على الجهمية ورد عثمان بن سعيد الدارمي على بشر المريسي ورد عبد العزيز الكناني على المريسي أيضا في كتاب الحيدة، وغيرها من الكتب والمصنفات التي خطها أولئك الهداة المتقون المتسلحون بسلاح النص الشرعي وملؤوها بالحجج والبراهين وخاضوا في البحث خوض المناظر العارف بدقائق الأقيسة ولطائف القوانين؟

وانظروا إلى مشارق الأرض ومغاربها التي عمّها نور الشرع وحكَمها دين الإسلام، هل دخلت في دين الله إلا بالقرآن الكريم وبكتب السنة المشرّفة؟ أوَلم يكن أولئك المرابطون في الثغور والمجاهدون في سبيل الله إلا من العلماء الذين قرنوا العلم بالعمل؟ وهل تسمّى الهنود والسنود والفرس والخراسانيّون والترك والفطانيّون والملاويّون والقوقازيّون والشراكسة والبلقانيّون ـ بعد خروج الفاتحين عنهم وقد تركوا فيها بقيّة من نفوسهم وبضعة من قلوبهم وأجداثا ضمّت أطهر الأجساد التي مشت على وجه الأرض ـ إلا بأسماء العلماء الربانيين الذين بذلوا النفوس وأرخصوا المهج وأراقوا الدماء ليُخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ولتعلوا كلمة الحق وينتشر الدين في كل فج عميق؟

إن العلماء الربانيين أقاموا بناءً مشيدا من صروح العلم المبني على توقير أمر الله وتعظيم شرعه وتلقيه بالقبول والتسليم والإذعان في مئة عام منتظما مئات المدائن والأقاليم والأمصار والنواحي وأعدادا لا يعلمهم إلا الله من البشر مختلفي العادات ومتبايني الثقافات ومتعددي الأمزجة، وبقي هذا البناء مشيدا مهيبا يزداد رسوخا بجذوره في الأرض وسموّا بفروعه إلى السماء على الرغم من مرور القرون إثر القرون، بينما عجز نظّار الشرق والغرب من خلخلة ذلك البناء أو هزّ متين عماده في ١٣٠٠ تصرمت من الأعوام.

لقد أخمدت أسماء هذه الثلة المباركة من علماء الأمة جميع المعارف من الفلاسفة ودهاقنة النظّار وأرْبت سيرهم وحياتهم ـ في روعتها وجلالها وسموّها ـ على سير أولئك وحياتهم، فسلوا المسلمين وطوّفوا في الآفاق حتى يتبيّن لكم أنه الحق.

هل كان الإمام أحمد مرتشيا خائنا خبيث النفس، مثل فيلسوف المادية التجريبية فرانسيس بيكون ذي القبائح المخزية؟ أم كان الإمام البخاري متشككا متوهّما لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان، مثل فيلسوف الشك رينيه ديكارت؟ أوليس الإمام المجاهد البطل ابن تيمية الذي مات في سجنه تاليا للقرآن عاكفا على التهجد قائما بالحق فخرج في جنازته خلق لا يحصيهم العد ولا ينفذهم البصر ولا يُسمعهم الداعي أشرف وأنقى وأتقى من فيلسوف الأشر والبطر والطغيان فريدريك نيتشه الذي مات منتحرا؟

دونكم سير الفلاسفة وأخبارهم وأحوالهم، فهل تجدون منها شيئا تشع به نور الهداية في نفوسكم، أو تنشرح معه صدوركم، أو تحيى به قلوبكم كما تفعل ذلك بكم سير الصالحين من علماء الأمة العارفين بالله وبشرعه والقائمين بدينه؟ لقد قرأت سيرهم ووقفت على أخبارهم فما وجدت فيها ما يصلح أن نقرأه على الناشئة أو نهذب به أخلاق الشباب فهي ظلمات بعضها فوق بعض.

فإذا كانت جنبات الصحف الغربية تضيق بذكر أئمتنا وأعلام ديننا، فلمْ نجد يوما صحفيا منهم أتى بالثناء الجميل والذكر النبيل على أحمد بن حنبل والبخاري ومسلم وبقية الأئمة، فعلام نجعل من صحفنا ومجلاتنا أبوابا مشرعة لفلاسفتهم ومفكريهم، نقدم لهم فيها دعايات بالمجان ونخدع بذكر أخبارهم وعرض فلسفاتهم الجيل الناشئ؟

إن صحفنا التي تتبرّم من ذكر أعلامنا من سادات أولياء الله الصالحين وأئمة العلم من المتقين، ثم تُفسح المجال لتعظيم فلاسفة الشرق والغرب، لهي صحف وظيفية وإن تكلمت بألسنتنا وكتبت بلغتنا.

<<  <  ج: ص:  >  >>