لا يجد المتابع صعوبة ليُدرك حجم الاختلاف، وتعدد الرؤى، وكثرة الأطروحات في واقعنا المعاصر، بصورة هي من سمات هذا العصر، ومن المؤثرات الكبيرة على أهله. بالطبع هذه الأطروحات الكثيرة متباينة وواسعة المدى من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، ولكل مقالة منها منتصرون ومنظِّرون، وهؤلاء من لا أريد الحديث عنهم هنا.
وإنما أريد أن يكون حديثي عن الجمهور المشاهد الذي تُلقى هذه الأفكار على رأسه في حرب لم يكد يشهد لها التاريخ مثالاً في الضراوة والتتابع!! هذا المستمع والمتابع كيف يصنع مع هذه الحرب، ومع أي قوم يصطف؟
ولأجل هذا الصنف من الناس أسوق عدداً من التنبيهات:
١ - من الأمور ما لا يجوز أن تكون موضعاً للجدل وتداول الرأي عند المسلم، وهي محكمات الشريعة، وقطعيات الأدلة، وهي كثيرة مشهورة يعرفها أهلها، وكثيراً ما تلتبس على مَن سواهم. وهذا النوع من الأمور -إذا وقع فيها الخلاف- الغالب فيها أن المخطئ فيها غير معذور، وأنه أعرض عن الحق أو أنه سلك في تحصيله الطرق غير الموصلة إليه، مع وضوحه، وقُرب مأخذه. ومع أن الحق من صفته دائماً أنه واضحٌ وقريب إلا أنه في هذا النوع أوضح، ومضيِّعُه حينئذ يكون ألوم.
٢ - مرجع الأمور الدقيقة في كل فنٍ إلى علماء ذلك الفن، ولا يمكن أن يكونوا على اختلاف مشاربهم، وتنوُّع مداركهم، وتوزُّع أماكنهم، وصعوبة أو استحالة اجتماعهم على هوى واحد= لا يمكن أن يكونوا جميعاً مخطئين، فإن خالفتهم برأيك في أمر، ثم رأيت جماعتهم على رأي واحد غيرِ رأيك؛ فاتهم رأيك ولا تتهمهم، فإن الهوى يُعمي ويُصم، ورأيك أقرب إلى الهوى من رأيهم، وأبعد عن العلمية من دقيق مناهجهم.
٣ - من المسائل المطروحة للنقاش ما ليس من المسائل القطعية، ولكن الحق فيها ظاهر، والرأي الآخر فيها له وجهه إلا أنه أبعد عن الظهور، وأقل تحقيقاً للمصلحة الشرعية، فمن المتصور أن يكون من الناس من يجتهد فيؤديه اجتهاده إلى ذلك الرأي، ومن الطبيعي حينئذ أن يكون القائل بهذا والمقتنع به أقل من القائل بالرأي الآخر، ما لم يقتض ذلك أمرٌ من الأمور .. ولكن أن يتحزب مجموعات، ويتنادوا بصوابية الرأي المهجور، ثم إذا نظرت وجدته مؤدياً إلى موافقة طريقة الحضارة الغربية (الغالبة) في التفكير والنظر إلى المسائل، في الوقت الذي يأباه أكثر أهل العلم الراسخين، فهناك اعلم أن ذلك من التداعي للهوى لا للعلم، وأنه من باب تقييم المصالح والمحاسن برأي (الآخر) ثم دفع المفاسد والقبائح (التي يراها الآخر كذلك) عن النفس!!
٤ - طائفةٌ من الناس تُعرض عن كل ذلك اشتغالاً بدين أو دنيا .. وهذا ممدوحٌ من جهة الاشتغال بما ينفع عما لا ينفع، ومن جهة عدد من النصوص الشرعية الآمرة بالإعراض عن الشبهات، وعن اللغو .. ولكن هؤلاء الناس لا يجوز أن يكونوا مجموع الأمة، لأنهم مع تباعدهم عن العراك الفكري إيجابيه وسلبيه إلا أنهم ليسوا بمعزل عن التعرُّض لسهامه، أو تعرُّض أهليهم لذلك. وكم في الناس من منغلق على نفسه، مناوئ للصالح والطالح من الأطروحات مَن انفتحت عليه فجأة فغرق في شبرٍ منها، وخُطف بالكلية إلى الضفة الأخرى. وهؤلاء الناس كذلك لا يندفع بهم فرضُ الكفاية عن الأمة في مدافعة الباطل، والمجاهدة بالقرآن. قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى:{وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}[الفرقان:٥٢] ولكن جاهدهم بهذا القرآن جهادا كبيراً، حتى ينقادوا للإقرار بما فيه من فرائض الله، ويدينوا به ويذعنوا للعمل بجميعه طوعا وكرها. وهذا مقتضى استخلاف هذه الأمة بالشهادة على العالمين.