لا شك أن عملية تسريب مئات الآلاف من الوثائق الأمريكية عبر موقع "ويكيليكس" تُعد الأضخم على مر التاريخ، فلم يحدث أن تعرضت دولة من قبل لتسريب هذا الكم من وثائقها السرية إلى وسائل الإعلام، لتصبح مداولات دبلوماسييها وتقديراتهم وآرائها الخاصة متاحة لعشرات الملايين عبر الانترنت، لكن تقدير الخطورة والأهمية التي تحملها هذه الوثائق يبقى أمراً غير محسوماً حتى الآن، فالبعض يراها مجرد "ثرثرة" لا تحمل جديداً، بينما يرى آخرون أن مصداقية أمريكا تعرضت لضربة عنيفة، وأن الكثيرين من ساسة العالم سوف يترددون كثيراً قبل الإفصاح عن مواقفهم الخاصة في حضرة المسئولين الأمريكيين، خشية أن يفاجئوا بها في اليوم التالي منشورة عبر العالم.
ورغم أن الطريقة التي وصلت بها هذه الوثائق إلى القائمين على موقع "ويكيليكس" مازالت مجهولة حتى الآن، إلا أن تقارير صحفية أشارت لتورط مجند بالجيش الأمريكي يدعي برادلي ماننج في الأمر، مستغلاً عمله في قسم تحليل المعلومات بالمخابرات العسكرية الأمريكية، ما منحه صلاحية الدخول لقواعد المعلومات الموصوفة بالسرية، والتي تتضمن ملايين الوثائق الخاصة بمختلف الوزارات والوكالات الفيدرالية، لكن صلاحيات ماننج، بحكم كونه مجنداً صغيراً، اقتصرت على قواعد المعلومات الأقل سرية وخطورة والمصنفة تحت بند "سري"، بينما لم تطل يده الوثائق الأكثر خطورة المنصفة تحت فئة "سري للغاية".
تحت الحزام
وبالفعل فإن ما جرى نشره حتى الآن من تلك الوثائق يخلو من أي معلومات أو وثائق خطيرة، فمعظم الوثائق الخاصة بوزارة الخارجية الأمريكية عبارة عن مراسلات روتينية بين مقر الوزارة بواشنطن والدبلوماسيين الأمريكيين عبر العالم، لكنها لا تخلو مع ذلك من تقديرات وتقييمات و"همز ولمز" قد يغضب مسئولي الدول التي يعمل فيها هؤلاء الدبلوماسيون، كما أنها - وهذا هو الأشد خطراً وإحراجاً لواشنطن - تتضمن مواقف غير معلنة أفضى بها ساسة هذه الدول إلى مسئولين ودبلوماسيين أمريكيين في جلسات خاصة، ومن ثم فإن الإفصاح عنها يضع قائليها وناقليها في حرج بالغ.
وقد حاولت الولايات المتحدة استباق هذا الحرج والتقليل من وطأته بإجراء سلسلة اتصالات مع مسئولي الدول الواردة في تلك الوثائق، لإطلاعهم مسبقاً على فحواها قبل أن يتم نشرها على "ويكيليكس"، إلا أن ذلك لم يقلل من حجم الغضب في دولة مثل روسيا، التي تضمنت الوثائق انتقادات واتهامات عنيفة بحق رئيسها دميتري ميدفيديف ورئيس وزرائها فلاديمير بوتين، خاصة الأخير الذي اتهمته إحدى الوثائق بإقامة علاقة وثيقة مع المافيا وتربحه والدائرة المقربة منه مليارات الدولارات جراء ذلك.
أما تركيا فقد تضمنت إحدى الوثائق مزاعم بحصول رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان على أموال بطريقة غير مشروعة وامتلاكه حسابات سرية في بنوك سويسرا، إضافة لمزاعم أخرى حول مساعدة مقاتلي تنظيم القاعدة في العراق، وتزويد إيران بمعدات لبرنامجها النووي. ولم تقتصر القائمة على روسيا وتركيا، وإنما امتدت لتشمل دول عدة، مثل فرنسا وإيطاليا وباكستان وأفغانستان، إضافة إلى معظم الدول العربية.