للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان لافتاً فيما سرب من وثائق حتى الآن خلوها من أي مواقف أو معلومات تضر بإسرائيل، بل إن ما تضمنته الوثائق يصب بشكل مباشر في مصلحة إسرائيل، سواء من جهة تشويه صورة تركيا ورئيس وزرائها أردوغان، عدو إسرائيل الجديد، عبر وصمه بالفساد وإظهاره بمظهر المتواطئ مع إيران، كما أن الوثائق تحاول الإيحاء بوجود إجماع غير معلن من جانب دول الجوار العربي على ضرورة قيام الولايات المتحدة بتوجيه ضربة عسكرية إلى إيران، وذلك على عكس ما يصرح به قادة هذه الدول في العلن، ولا شك أن ضرب إيران يشكل مطلباً إسرائيلياً ملحاً، كي تبقى تل أبيب متفردة بامتلاك السلاح النووي في المنطقة.

هذه الملاحظة دفعت الرئيس التركي عبد الله جول، ومعه الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، الذي تعد بلاده أحد أشد المتضررين من نشر الوثائق، للاستنتاج بأن ما يحدث ليس تسريباً وإنما عملية منظمة ومنسقة تمر عبر "مصفاة" لتحقيق أهداف محددة سلفاً، أما وزير الداخلية التركي فقد كان أكثر تحديداً واتهم إسرائيل صراحة بالوقوف وراء تسريبات ويكيليكس، منطلقاً من نظرية بوليسية تدعو للبحث عن "من المستفيد؟ ومن الخاسر؟ " لفك لغز أي قضية، وبهذا المنطق خلص الوزير التركي إلى كون إسرائيل هي المستفيد لخلو الوثائق من أي إدانة تمسها، في حين أن أكبر الخاسرين هم خصوم إسرائيل، سواء تركيا أو إيران، وبالتالي فإن الفائدة الإسرائيلية مزدوجة.

تسريب منظم

وإذا ما اعتمدنا نظرية التسريب المتعمد للوثائق، فإن هناك عدة سيناريوهات لذلك:

الأول: يتهم جهات في الاستخبارات الأمريكية بالوقوف وراء ذلك بهدف تضييق الخناق على إيران، وإيصال رسالة للعالم بأن إجهاض برنامج طهران النووي، ولو عبر القوة العسكرية، يعد هدفاً مشتركاً ليس فقط بين إسرائيل والولايات المتحدة، وإنما تتفق عليه دول الجوار العربي، وإن كانت تقول في العلن عكس ذلك، كذلك فإن التسريبات تبالغ كثيراً في إظهار طبيعة العلاقة بين إيران وتركيا، ما قد يجعل أنقرة أكثر حذراً في المستقبل تجاه أي تعاون مع طهران.

ويرى أنصار هذا السيناريو أن دفع هذه الوثائق، التي أشبه ما تكون بمداولات داخلية، إلى العلن ربما يساعد في دفع الرأي العام الأمريكي لمساندة مواقف بعينها، حسبما يخطط مسربو الوثائق، أي أنهم يريدون مساندة الرأي العام لتمرير وجهة نظرهم على حساب تيارات أخرى داخل الإدارة الأمريكية، كذلك فإن إطلاع الأمريكيين على المخاوف والتحذيرات الواردة في الوثائق سوف يبرر للإدارة الأمريكية اتخاذ مواقف أكثر حدة تجاه بعض حلفائها، متذرعة في ذلك بإرضاء الرأي العام، وهو ما ينطبق بشكل خاص على الأوضاع في باكستان وأفغانستان.

أما ثاني السيناريوهات فيتهم التيارات اليمينية ومناصري إسرائيل بالوقوف وراء التسريبات، أولا: لإحراج الرئيس أوباما وتصويره بمظهر العاجز حتى عن حماية وثائق إدارته، فما بالك بأمن الولايات المتحدة ومواطنيها؟، وثانيا: لدفع أوباما لتبني سياسات أكثر شدة تجاه إيران وصولاً إلى وضع الخيار العسكري على الطاولة، كذلك فإن الوثائق تستهدف كشف حجم المشكلات والإخفاقات التي تعاني منها إدارة أوباما في مجال إدارة السياسة الخارجية، وعجزها عن اتخاذ مواقف رادعة تحفظ مصالح أمريكا، مع الخصوم والحلفاء على حد سواء.

تحالف ثلاثي

ويذهب السيناريو الثالث إلى وقوف تحالف من المخابرات الأمريكية والهندية والإسرائيلية وراء الوثائق المسرَّبة، فالأمريكية والإسرائيلية تريدان تكثيف الضغوط على إيران، وعزلها عن جيرانها العرب عبر زرع الشكوك بينهما، إضافة لردع تركيا عن تعزيز علاقتها مع طهران، أما المخابرات الهندية فإن ما تضمنته الوثائق عن برنامج باكستان النووي يعد صيداً ثميناً، إذ أنها تحذر من إمكانية سيطرة المتشددين الإسلاميين على منشآت إسلام آباد النووية، أو نجاح تنظيم القاعدة في اختراق العاملين في تلك المنشآت بما يمكنه من امتلاك سلاح نووي، وهو ما يعزز وجهة نظر نيودلهي القائلة بأن باكستان غير جديرة بامتلاك سلاح نووي، وأنه يجب تجريدها من ذلك أو على الأقل وضع منشآتها النووية تحت إدارة دولية.

ورغم أنه لا يمكن القطع بمدى صحة أي من تلك السيناريوهات، إلا أن ما يتم تسريبه من وثائق يؤكد يوماً بعد آخر أن ما يحدث ليس عملاً عبثياً أو مجرد فشل أمني أدى لتسريب الوثائق، وإنما هي عملية منظمة يقف وراءها أشخاص أو جهات تدرك قيمة ما تتضمنه الوثائق من وقائع ومعلومات وتقوم بنشره بشكل منهجي ومبرمج، أي أن ما تصوره البعض "صيد ثمين" عبر الإطلاع على وثائق الخارجية الأمريكية والبنتاجون ومعرفة خفايا ما يدور في الدهاليز، ربما يكون "طعم مثير" لاصطياد فريسة أهم وأخطر مما تضمنته الوثائق من مواقف قد تضر بدبلوماسية واشنطن ومصداقيتها على المدى القريب.

<<  <  ج: ص:  >  >>