[نحو تأصيل فكري للممانعة المجتمعية]
محمد بن إبراهيم السعيدي
الخميس ٢٨رجب١٤٣٢هـ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ومن نهجه إلى يوم الدين أما بعد:
نشأة القِيَم:
أخلاق الأمم وآدابها ورؤاها وعباداتها وعاداتها وأعرافها والتي يمكن أن نسميها في سائر هذه الورقة قيم الأمة، الأصل فيها: أنها تنشأ من داخل تلك الأمم.
ولن يكون هذا عائقاً دون أن تؤثر الأمم في بعضها وتتأثر بحكم الجوار أو المخالطة أو أي شيء آخر، بل ربما يُعد مدى قدرة الأمة على التأثير في غيرها مقياساً متفقا عليه على قوة حضارتها بصرف النظر عن الحكم الشرعي عليها، كما أن مدى قدرتها على التأثر يُعَد مقياسا متفقاً عليه على مدى تعلقها ببنائها الحضاري واستنباط قيمها من داخله بصرف النظر أيضا عن الحكم الشرعي على ذلك البناء.
والمفكرون يعدون الأمم التي لا تقبل التأثير الحضاري أمما منغلقة حضاريا غير قابلة للتطور، وذلك أن التطور لا يمكن أن يتم لأمة من الأمم دون أن تأخذ من الأمم الأخرى لأن الحضارة كما يقولون مشترك إنساني لا يمكن أن تبنيه أمة وحدها.
وهذا الأمر بقدر ما هو صحيح بإطلاق في جانب الحضارة المتعلق بالمعرفة فهو صحيح إلى حدٍ ما فيما يتعلق بما تعارفنا على تسميته قبل قليل بقيم الأمة والذي يتكون من الأخلاق والآداب والعبادات والعادات والأعراف.
وذلك أن القيم للأمة الرائدة يجب أن تتكون في داخله نتيجة تفاعل الإنسان مع دينه وبيئته ولغته وتاريخه ومقدرات أرضه، وهي ما سنتعارف عليه في هذه الورقة بأصول القيم، فيتكون من ذلك التفاعل: كلُ ما يحكمُ الناسَ في تصرفاتهم مع محيطهم وتصوراتهم للكون والحياة.
إذاً فكما أن العناصر لقيم الأمة هي: الأخلاق والآداب والتصورات أو الرؤى للكون والحياة وكذلك العبادات والعادات والأعراف، فإن الأصابع التي تنسج هذه العناصر وتقدمها في صورتها النهائية للعالم هي دين الأمة والبيئة التي تعيش فيها ومقدرات أرضها وتاريخها ولغتها، وهي مكونات القيم أو مادتها الخام، والتفاعل المستمر بين البشر وبين هذه المكونات يترتب عليه استمرارٌ في إنتاج القيم الاجتماعية للأمة بشكل متَّسِق وغيرِ متناقض.
وحين نلحظ أن شيئاً من قيم الأمة نشأ بعيدا عن هذه الأصول أي نشأ من تفاعل مع دين آخر أوتاريخ آخر أوبيئة أخرى فإن هذا الخلق أو هذه العادة أو هذه الرؤية ستظل ناتئةً مناقضةً لسياقِ المجتمع بأسره بما يحمله من ثقل ثقافي كبير.
ومقدارُ معاناةِ هذا القيمة الوافدة من رفضٍ اجتماعي يمكن أن يكون مقياساً لمدى تفاعل المجتمع مع الأصول المكونة لقِيَمِهِ الاجتماعية والتي تَقَدِّم سردُها قبل قليل.
وحين نجد أن المجتمع قد استطاع هضم عادة أو خلق تكوَّنا خارج محيطه وغَفَل عن مناقضتها لسياق هيئته الاجتماعية العامة فهذا يعني أن هناك نقطة ضعف في تفاعل المجتمع مع دينه أو تاريخه أو بيئته وسائر الأصول المكونة لقيمه، ومن نقطة الضعف تلك يمكن أن تَفِد إلى المجتمع أشكالٌ مختلفة من القيم الدخيلة سوف تؤدي كثرتها إلى كثرة التناقضات في هيئة المجتمع، الأمر الذي سينفرج حتماً عن صورة لهذا المجتمع ضعيفة الصلة بالأصول المُكَوِّنَةِ لِقِيَمِه، أي: أنها ستُنتِجُ لنا مجتمعاً غير منتمٍ لأصله، وهذا هو الشرط الأول كي تحظى الأمة بقيم رائدة.
وقد يتفاعل المجتمع مع بعض أصول قِيَمِه دون بعض, فيتفاعل مع التاريخ أو البيئة أو المقدرات بمعزل عن الدين، وهذا هو سر نشوء أخلاق أو عادات أو تصورات ورؤى غير حميدة بالرغم من كونها وُلدت ونشأت في أحضان هذا المجتمع.