ينتج عن هذا أن نعلم أن الشرط الثاني من شروط وجود قِيَمٍ اجتماعية رائدة أن يكون تفاعل الإنسان لإنتاج سلوك اجتماعي أو عادةٍ أو عرفٍ أو رؤيةٍ خاصةٍ أو عامةٍ مستغرقاً لكامل أصول القيم الاجتماعية لا مع البعض دون الآخر وإلا فإننا سوف نبني بإغفال بعض أصول قيمنا هيئة اجتماعية محطمة.
تجربة تاريخية:
وهذا الأمر, أي: تَكَوُّنُ القيم نتيجة تفاعل الإنسان مع بعض مكوناتها الأصيلة دون بعض, هو ما حصل بالفعل في العالم الإسلامي عبر قرون عديدة مرت بها القِيَم الاجتماعية في مختلف بلاد المسلمين.
فقد نشأت عادات وأعراف ورؤى وتصورات سيئة جداً رغم أنها تكونت من داخل العالم الإسلامي وكان السر في سوئها أنها لم تراع الدين في تكوينها غالباً وفي أحيان أخر لم تراع التاريخ والبيئة واللغة، ومما يؤسف له أن الضعف في محاولات إصلاح هذا الخطأ، بل محاربة حركات أفذاذ العلماء المستمرة للإصلاح, أدت إلى سيادة الصورة المشوهة لقِيَم الأمة في العالم الإسلامي، وأصبح التخلف الفكري والبعد عن العقيدة الصحيحة وسيادة الخرافة والجور والتسلط هي السمة المعرِّفة للمسلمين بل وأصبحت تنسب زوراً للإسلام.
وهذه الصورة المشوهة للقيم الاجتماعية الإسلامية هي أكثر العوامل تأثيراً في نجاح الحروب الصليبية الأولى، كما أنها أبرز عوامل نجاح ما يُسمى بالاستعمار في العصور المتأخرة.
وبعد الاستعمار الغربي لمعظم بقاع العالم الإسلامي بدأ المسلمون يحتضنون عناصر قِيَمِيَّةً لأممٍ أخرى، أي يحتضنون أخلاقاً وعاداتٍ ورؤى وتصوراتٍ نشأت في بيئات مختلفة عن البيئة الإسلامية، ونتيجة لعدم تفاعل الإنسان المسلم في عصور الاستعمار وما قبل عصور الاستعمار مع كامل أصول قِيَمِه الاجتماعية -الدين والبيئة واللغة والتاريخ ومقدرات الأرض- استطاعت هذه العناصر الدخيلة العيش بسلام في هيئتنا الاجتماعية, الأمر الذي أحدث الكثير من التناقضات بين صورة المجتمع المسلم وبين المكونات المفترضة لهيئته الاجتماعية، حيث ظهرت العناصر الوافدة على السطح وأصبحت تَحكُم علاقات المسلمين ببعضهم وعلاقاتهم بغيرهم ثقافيا واجتماعياً بل وتحكم علاقتهم بالكون الذي يعيشون فيه والحياة التي يحيونها.
ومما زاد الأمر سوءً ظهور اجتهادات فقهية تحاول الربط بين هذه العناصر الوافدة من قيم الآخرين وبين الأصول المكونة لقيمنا وأعظمها الدين، وإظهار هذه العناصر كواقع مهيمن لا محيص عنه وإظهار الدين والتاريخ الإسلامي كله على شكل كائن هلامي يمكن أن يتشكل كما تشاء الظروف.
والحقيقة التي لا ينبغي أن يغفل عنها مسلم فضلا عن علماء المسلمين: أن الإسلام جاء لتشكيل الواقع وتغييره لا للاستسلام له والسير على وفقه، لكن غياب هذه الحقيقة أو التغافل عنها أدى إلى تهاوي كثيرٍ من أحكام الشريعة الإسلامية أمام سلطة الواقع في العالم الإسلامي، وأصبح مظهر المسلمين لا يعبر عن دينهم ولا تاريخهم بل يعبر عن تناقضات بشعة بين هيئة اجتماعية مستوردة وبين مكونات أصيلة تحاول الظهور بين الفينة والأخرى.
من أسباب سوء الواقع القِيَمِي:
هذا الواقع السيء المتمثل في تناقض كثيرٍ من قيم المسلمين مع أصولهم بسبب كثرة الدخيل في عاداتهم وعباداتهم وأخلاقهم ورؤاهم وتصوراتهم، وعدم تفاعلهم مع أصولهم في تكوين عناصر قِيَمِهم، هذا الواقع يرسم له المؤرخون لهذا العصر كثيراً من الأسباب التي أدت إليه، فيذكرون منها: هيمنة الاستعمار الغربي وجنوح الأمم المغلوبة إلى تقليد الأمم الغالبة بشكل تلقائي كما يذكرون منها الجهل والاستبداد السياسي وأشياء أخر لا يسعنا تفصيلها الآن.